منبر الكلمة

السفير الأمريكي خارج العاصمة… دبلوماسية الميدان أم قراءة المزاج الأردني؟

 

عدنان نصّار

لم تعد تحركات السفراء تقتصر على اللقاءات الرسمية داخل العواصم أو البيانات الدبلوماسية المعلّبة. فخروج السفير الأمريكي في الأردن إلى المحافظات، وحرصه على زيارة مدن وبلدات بعيدة عن مركز القرار، يفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول طبيعة هذه الجولات، وحدودها، والرسائل التي تحملها في توقيت سياسي واقتصادي إقليمي بالغ الحساسية.
في ظاهرها، يمكن قراءة هذه الجولات بوصفها امتدادًا لما يُعرف بـ«دبلوماسية الميدان»، حيث يسعى الدبلوماسي إلى النزول من برجه الرسمي، والاقتراب من الناس، والاستماع إلى قصصهم اليومية، والتعرّف على واقعهم بعيدًا عن تقارير تُكتب في مكاتب مكيفة. هذه المقاربة باتت شائعة في الدبلوماسية الحديثة، التي تحاول فهم المجتمعات من الداخل، لا الاكتفاء بالتواصل مع النخب.
غير أن المشهد الأردني يمنح هذه الجولات أبعادًا أعمق. فالمحافظات ليست مجرد جغرافيا خارج العاصمة، بل هي الخزان الاجتماعي والسياسي الحقيقي للدولة، وفيها تتشكّل المواقف، وتُصاغ المزاجات العامة، وتتراكم الأسئلة والهموم. ومن هنا، يصبح خروج السفير الأمريكي إلى هذه المساحات فعلًا دبلوماسيًا لا يخلو من الدلالات، ويتجاوز الطابع الرمزي إلى محاولة قراءة المزاج الأردني عن قرب.
الأردن اليوم يقف عند تقاطع تحديات داخلية معقدة، تتصدرها الضغوط الاقتصادية، وارتفاع نسب البطالة، وتراجع القدرة المعيشية، إلى جانب تأثيرات الإقليم المشتعل من حوله. هذه العوامل مجتمعة تصنع رأيًا عامًا حساسًا، شديد الانتباه لأي تحركات خارجية، خاصة تلك القادمة من دول فاعلة في الإقليم. ولذلك، فإن الاهتمام الأمريكي بالمحافظات قد يعكس رغبة في فهم هذا المزاج، واستشراف اتجاهاته، وربما قياس مدى تفاعل الشارع مع السياسات الدولية المطروحة.
في المقابل، يطرح هذا الحضور الميداني تساؤلات مشروعة حول الخط الفاصل بين الدبلوماسية الطبيعية ومحاولات التأثير الناعم. فالتواصل مع المجتمعات المحلية، مهما كان شكله، لا يُقرأ فقط بنواياه المعلنة، بل بسياقه السياسي الأشمل. والأردنيون، بخبرتهم التاريخية ووعيهم السياسي، يدركون أن العلاقات الدولية لا تُبنى على الصور والزيارات وحدها، بل على مواقف واضحة، خاصة في القضايا الكبرى التي تمس الوجدان الوطني، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ورغم ذلك، لا يمكن القفز إلى استنتاجات متسرعة. فالأردن دولة راسخة بمؤسساتها، ومجتمعها يمتلك من النضج ما يجعله قادرًا على التفاعل دون انفعال، والاستماع دون ذوبان. قوة هذا البلد لا تكمن فقط في استقراره، بل في وعي ناسه، وفي قدرتهم على التمييز بين الاحترام المتبادل وبين أي قراءة خارجية تحاول اختزال المجتمع في مؤشرات سريعة.
المحافظات الأردنية ليست هامشًا سياسيًا ولا مساحة صامتة، بل هي قلب الدولة النابض، وصوتها الحقيقي. وأي محاولة لفهم الأردن تبدأ من هناك، لكنها لا تكتمل إلا باحترام خصوصيته الوطنية، وثوابته السياسية، وخياراته المستقلة.
في النهاية، سواء كانت جولات السفير الأمريكي تعبيرًا عن دبلوماسية ميدانية معاصرة، أو محاولة لقراءة المزاج الأردني عن قرب، فإن الرسالة الأهم تبقى أن الأردن، دولةً ومجتمعًا، حاضر بوعيه، وقادر على إدارة علاقاته الدولية بثقة واتزان، دون تفريط بثوابته، ودون انقطاع عن نبض الشارع الذي يشكّل جوهر قوته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى