منبر الكلمة

الدلالات السياسية للحملة الصهيونية على الأونروا

حسن نافعة

أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة

 

يريد نتنياهو تقويض الأونروا لأنه يريد تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وهو ما لا يستطيع تحقيقه إلا بشطب موضوع اللاجئين الفلسطينيين من جدول أعمال النظام الدولي.

تتعرض وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئيين الفلسطينيين “الأونروا” لحملة ممنهجة، تستهدف تشويه سمعة المنظمة العالمية والحط من مكانتها. تمهيداً لتقويضها بالكامل ومنعها من أداء رسالتها الإنسانية، وهي حملة تقودها “إسرائيل”، وتديرها قوى الصهيونية العالمية، وتدعمها الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، وقد وصلت هذه الحملة إلى ذروتها في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس على “إسرائيل” يوم 7/10/2023، حيث أصدرت الحكومة الإسرائيلية بياناً تتهم فيه الأونروا رسمياً بالمشاركة في التخطيط لهذا الهجوم وتنفيذه ، عبر تقديم الدعم اللوجستي والمعلوماتي لفصائل المقاومة الفلسطينية، وعبر السماح لهذه الفصائل باستغلال مباني وتجهيزات الأونروا في أغراض غير مدنية.

نفت الأونروا هذه المزاعم جملة وتفصيلاً، وفشلت “إسرائيل” في إثبات صحة أي منها، وجرى تشكيل لجنة مستقلة برئاسة كاترين كولونا، وزيرة خارجية فرنسا السابقة، قامت بإجراء تحقيق شامل في هذه الادعاءات، ونشر تقريرها الذي أشار بوضوح إلى أن “إسرائيل” لم تقدم دليلاً ملموسًا واحداً على أن أياً من موظفي الأونروا شارك بنفسه في هجوم 7/10/2023، أو ارتبط تنظيميا بحركة حماس أو بأي فصيل آخر من فصائل المقاومة الفلسطينية، أو تورط في تهريب أسلحة استخدمت في هجوم 7/10 أو في غيره. ثم نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» تقريراً أشارت فيه إلى أن مسؤولاً في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية شكك في صحة الادعاءات الإسرائيلية.

وأقدم مواطنون أميركيون على رفع دعوى قضائية أمام إحدى المحاكم اتهموا فيها الأونروا بتحويل أموال لحساب حماس، غير أن المحكمة حكمت برفض نظر الدعوى، استناداً إلى تمتع الأونروا بحصانة قضائية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من البنية المؤسسية لمنظمة الأمم المتحدة.

كما نشر بعض وسائل الإعلام الأميركية تقارير صحافية تفيد بأن “إسرائيل” ادعت أمام قضاة محكمة العدل الدولية أن لديها أدلة تثبت أن بعض موظفي الأونروا هم أعضاء في حركة حماس، لكن الحكومة الإسرائيلية فشلت في تقديم ما يثبت صحة هذا الادعاء.

انساقت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى وراء “إسرائيل” في هذه الحملة الظالمة وغير المبررة، ما ساعد على تضخيمها وأسهم في تشوية صورة الأونروا في أذهان الكثيرين، بل إن بعض هذه الدول اتخذ إجراءات عقابية ضدها، كتخفيض حجم المساهمات الطوعية المقدمة لها أو حجبها كلياً.

ولأنها مؤسسة تقوم بشاط إنساني بحت، يفترض أن يلقى التقدير والاحترام لدى الجميع، فمن الطبيعي أن تثير حملة بهذه الشراسة شكوكاً قوية حول حقيقة الدوافع والأهداف الكامنة وراءها، يعتقد على نطاق واسع أنها أهداف ودوافع سياسية بحتة يصعب فصلها عن حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنها “إسرائيل” على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عامين، لأنها تصب في الاتجاه  نفسه وتؤدي إلى تحقيق النتائج نفسها، وخصوصاً أن حكومة نتنياهو المتطرفة استغلت “طوفان الأقصى” ووجدت فيه فرصة ينبغي انتهازها لإعادة احتلال قطاع غزة، وإجبار الفلسطينيين على الرحيل منه، وضم الضفة الغربية، وتصفية محور المقاومة.

لإدراك الأبعاد والدلالات الحقيقية لهذه الحملة الممنهجة، ينبغي أن نتذكر أن تأسيس “الأونروا” ارتبط ارتباطاً عضوياً بما أسفرت عنه حرب 1948 من نتائج مأسوية.

فخلال هذه الحرب ارتكبت “إسرائيل”، باعتراف مؤرخين وأكاديميين إسرائيليين اطلعوا بأنفسهم على السجلات الرسمية للأرشيف الإسرائيلي، مذابح جماعية وعمليات تطهير عرقي ترتب عليها فرار أعداد ضخمة من الفلسطينيين، لا تقل عن سبعمئة وخمسين ألف شخص، لجأ معظمهم إلى الدول العربية المجاورة. وأمام هذا الوضع المأسوي اضطرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي سبق لها اتخاذ قرار بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين، قراراً نصت الفقرة 11 منه على “وجوب السماح بعودة اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ودفع تعويضات عن الممتلكات التي يقرر أصحابها عدم العودة، وعن أي فقدان أو ضرر يلحق بهذه الممتلكات، وذلك طبقاً لما استقرت عليه قواعد القانون الدولي و مبادئ الإنصاف” (القرار 194 الصادر في 11/12/1948).

ولأن أوضاع هؤلاء اللاجئيين راحت تتفاقم، بسبب إصرار “إسرائيل” على رفض عودتهم إلى ديارهم، قررت الجمعية العامة، وبعد عام كامل من وقوع هذه المأساة الإنسانية الكبرى، تأسيس وكالة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، استهدفت “تقديم خدمات إغاثة غذائية وتعليمية وصحية وتشغيلية” لهولاء اللاجئين في أماكن وجودهم (القرار 302 الصادر في 8 / 12/ 1949)، وذلك بشكل مؤقت إلى أن يتم تنفيذ القرار 194، وخصوصاً أن “إسرائيل” كانت قد تعهدت تنفيذه إبان المناقشة التي جرت حول عضويتها في الأمم المتحدة.

ربما يكون من المفيد هنا تذكير القراء بأن قرار الجمعية العامة بقبول “إسرائيل” عضواً في الأمم المتحدة (القرار 273 الصادر في 11/5/ 1949) جاء مشروطاً بتعهدها احترام وتنفيذ القرارين 181 و194. فقد نص هذا القرار على “وبعد أن أخذت (الجمعية العامة) علماً بالتصريحات والتعهدات التي قدمها ممثل حكومة إسرائيل…تقرر قبول إسرائيل عضوًا في الأمم المتحدة”.

وبالرجوع إلى محاضر الجلسات التي سبقت جلسة التصويت على هذا القرار، تبين أن ممثل “إسرائيل” في الجمعية العامة قال بالحرف الواحد “تقبل حكومة “إسرائيل” ميثاق الأمم المتحدة وتتعهد تنفيذ قرارات الجمعية العامة ذات الصلة”،  وفي جلسات أخرى ذكر القرار 194 بالاسم، ما يقطع بأن حق العودة لم يكن مجرد مطلب سياسي فلسطيني بل كان أيضا  جزءاً لا يتجزأ من إطار قانوني قُبلت “إسرائيل” بموجبه عضواً في النظام الدولي، ما يعني أن استمرارها في رفض تنفيذ هذا القرار يخلّ بشروط العضوية في الأمم المتحدة ويبرر طردها إذا ما تمادت في غيّها.

وبدلاً من أن يستجمع المجتمع الدولي القوة التي تمكّنه من أن يفرض عليها الاختيار بين الاستمرار في رفض تنفيذ القرار 194 أو فقدان عضويتها في الأمم المتحدة، إذا بـ “إسرائيل”، وبعد مرور أكثر من 75 سنة من صدور قرار العودة، تعمل على إبادة اللاجئيين وتصفية قضيتهم، بدلاً من السماح بعودتهم، لا عبر حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي ثانية فحسب، ولكن أيضاً عبر محاولة شطب وإلغاء الوجود المادي للمنظمة الأممية المسؤولة عن تقديم الرعاية الإنسانية لهم!!

بعد تأسيس “الأونروا”، قبلت “إسرائيل” وجودها على مضض، كواقع دولي لا تستطيع تغييره، ومن ثم سمحت لها بالعمل داخل الأراضي االتي سيطرت عليها بعد حرب 48. ولأن جل أنشطتها الميدانية قبل حرب 67 كانت تتم في دول عربية مجاورة، لم يكن هناك مبرر أو مجال للاحتكاك، ومن ثم اتسمت العلاقة بينهما في ذلك الوقت بتعاون إداري محدود، رغم موقف “إسرائيل” السياسي الرافض للأونروا من حيث المبدأ، من منطلق أن وجودها في حد ذاته يذكر العالم باللاجئيين الفلسطينيين ويبقي على القضية الفلسطينية حية في أذهان الرأي العام، غير أن هذا الوضع تغير جذرياً بعد حرب 1967، حيث أصبحت الأونروا تعمل تحت سلطة الاحتلال مباشرة، ما أدى إلى اتساع مجالات ومبررات الاحتكاك بينهما، وراحت “إسرائيل” تتهم الأونروا بأنها تغذي الهوية الفلسطينية التي تحض على كراهية اليهود، من خلال المناهج الدراسية المستخدمة في المدارس التي تتولّى إدارتها.

ومع تصاعد المقاومة الجماهيرية للاحتلال، خصوصاً إبان انتفاضتي 1987 و 2005، بدأت “إسرائيل” تتهم الأونروا بالتساهل مع أنشطة سياسية تنظمها الفصائل الفلسطينية وتسمح لها باستخدام مبانيها ومرافقها في أغراض غير مدنية، لكنها عجزت عن تقديم أدلة على صحة هذه الاتهامات. وعندما بدأت أقدام اليمين المتطرف ترسخ في “إسرائيل”، بدأت حكوماته المتعاقبة تسعى جاهدة لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، خصوصاً عقب وصول ترامب إلى البيت الأبيض. فخلال فترة ولايته الأولى، ضاعفت الحكومة الإسرائيلية من ضغوطها على الأونروا وبدأت تحاصرها أكثر وتعتبرها جزءاً من المشكلة لا من الحل، بل وتطالب علنا بإلغائها وإسناد مهامها إلى المفوضية العامة لشؤون اللاجئين. وقد تمكن نتنياهو من تسديد ضربة قوية للوكالة حين نجح في إقناع ترامب بمنع التمويل عنها نهائياً. ولأن الولايات المتحدة كانت تسهم في التمويل بما يقرب من ثلث إجمالي ميزانية الوكالة، فقد بدأت أنشطتها وبرامجها تتقلص إلى حد العجز أحيانا عن تلبية بعض الاحتياجات الأساسية للاجئيين.

حين عاد ترامب إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية، كان “طوفان الأقصى” قد ضرب “إسرائيل” قبل عام كامل، وكان اليمين المتحكم فيها قد قرر انتهاز الفرصة لشن حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي على كل الفلسطينيين في القطاع، وبالتالي لم تكن مدارس الأونروا ومستشفياتها ومراكز الرعاية والخدمات التابعة لها، والتي تحولت بالفعل إلى مراكز لجوء للفلسطينيين، قادرة على حمايتهم، بل كانت، على العكس، أهدافاً مشروعة ومستحبة لآلة الحرب الإسرائيلية، ما يفسّر مصرع 392  من كوادر الأونروا، إضافة إلى 73  من موظفيها المحليين، وتدمير 88% من مرافقها ومؤسساتها التعليمية والصحية والإغاثية، وهي أرقام غير مسبوقة في تاريخ التنظيم الدولي كله. ولولا ثقة “إسرائيل” المطلقة في أن الفيتو الأميركي جاهز على الدوام لحمايتها من الطرد من الأمم المتحدة ومن التعرض لأي نوع من العقوبات، لما أُصيبت بكل هذا القدر من التوحش والصلف ولما ارتكبت كل هذا الكم من الجرائم.

يريد نتنياهو تقويض الأونروا، بقتل جانب من موظفيها وتخويف من بقي منهم على قيد الحياة وتجفيف مواردها المالية في الوقت نفسه، لأنه يريد تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وهو ما لا يستطيع تحقيقه إلا بشطب موضوع اللاجئين الفلسطينيين من جدول أعمال النظام الدولي.

وهذا أمر قد يكون مفهوماً من شخص مطلوب للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. لكن ما الذي يمنع الدول العربية الغنية من المسارعة إلى إنقاذ الأونروا للإبقاء على القضية الفلسطينية حية؟ هل هو الخوف؟ أم التواطؤ؟ أم الاثنان معاً؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى