
تحقيق: فريق آفاق نيوز ..
تحرير :رئيس التحرير
على أطراف قرية صغيرة في محافظة الطفيلة، يقف محمود (27 عامًا) أمام منزله الطيني وهو يراقب الحافلة اليومية التي تقلّ شباب قريته إلى العاصمة عمّان.
يقول بنبرةٍ يغلبها الحزن:”لم يعد في القرية ما يُغري بالبقاء. الأرض عطشى، والمشاريع التي وعدونا بها لم تُنفّذ، حتى الزراعة لم تعد تطعم خبزًا.”
تتكرر هذه الصورة في معظم القرى الأردنية، من المفرق إلى الكرك. ورغم ذلك، خرج وزير العمل خالد بكّار بتصريحٍ قال فيه مؤخرًا إن “الوزارة نجحت في الحدّ من هجرة الشباب من الريف إلى المدينة بفضل البرامج التنموية ومشاريع التشغيل التي نُفّذت في المحافظات.”
لكنّ الواقع على الأرض يروي قصة مختلفة تمامًا: الشباب لا يتوقفون عن الهجرة، لا إلى المدن فحسب، بل إلى خارج البلاد أيضًا.
*بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني
في جولتنا على عدد من القرى، لم نعثر على مظهرٍ واحدٍ يدلّ على نجاح تلك السياسات.
الأسواق فارغة، الحقول متروكة، والمحال مغلقة إلا من كبار السن.
في الوقت ذاته، تتكدس المدن الكبرى بآلاف الشباب العاطلين عن العمل أو العاملين في وظائف مؤقتة لا تليق بمؤهلاتهم.
يقول محمد (29 عامًا) من الكرك، خريج هندسة مدنية يعمل في مقهى بعمان:
“جئت إلى العاصمة بحثًا عن عمل. وجدت العشرات مثلي. في النهاية، لم أجد سوى وظيفة مؤقتة براتب لا يكفي أجرة الغرفة.”
يعلّق خبير التنمية المحلي د. أحمد الرواشدة على تصريح الوزير بقوله : “من السهل الادعاء بأننا حدّينا من الهجرة الداخلية، لكن الأرقام لا تدعم ذلك.
ما حدث فعليًا هو العكس: نزوح متزايد نحو المدن، يقابله فراغ سكاني في الريف، لأن البرامج الحكومية تركز على الشكل لا المضمون.”
*وعود تتكرر… ومشاريع لا تُرى
منذ أكثر من عقد، ترفع الحكومات المتعاقبة شعار “تنمية المحافظات”، وتعلن عن مشاريع “تمكين الشباب” و”تشغيل أبناء الريف”، لكن معظم تلك المشاريع بقي حبرًا على ورق.
تُصرف الملايين على دراسات واستراتيجيات، وتُلتقط الصور التذكارية في الافتتاح، ثم لا يُتابع التنفيذ ولا تُقاس النتائج.
يقول أحد رؤساء لجان البلديات (فضّل عدم ذكر اسمه): “تأتي لجان من العاصمة، يعلنون مبادرة تشغيل أو مشروعًا زراعيًا، ثم تختفي اللجان والمشاريع معًا. ما يجري هو إدارة شكلية للأزمة، لا حلول حقيقية.”
وتشير بيانات دائرة الإحصاءات العامة إلى أن أكثر من 60% من سكان الأردن يعيشون اليوم في ثلاث مدن رئيسية (عمّان، الزرقاء، إربد)، مقابل تناقص مستمر في سكان القرى والأرياف.
هذا الواقع يناقض تمامًا ما ذهبت إليه تصريحات وزارة العمل التي تزعم أن الهجرة الداخلية “تراجعت”.
*من الريف إلى المدينة… ثم إلى المجهول
الانتقال من القرية إلى المدينة لم يعد نهاية المطاف. فالكثير من الشباب الذين هاجروا إلى المدن لم يجدوا فيها ما يبحثون عنه، فاتجهوا إلى الهجرة الخارجية.
رائد (31 عامًا) من مادبا، خريج جامعي، يقول: “بدأت في عمان كعامل مياومة، ثم حاولت فتح مشروع صغير وفشلت بسبب الكلفة العالية. الآن أنتظر عقد عمل في الخليج. أريد أن أبدأ من جديد، بعيدًا عن هذا الإحباط.”
وهكذا، تتحول رحلة الشباب الأردني إلى سلسلة من الهجرات المتتالية: من الريف إلى المدينة، ومن المدينة إلى الخارج.
إنها دائرة مغلقة لا يخرج منها إلا من يقرر المغادرة نهائيًا.
*وزارة العمل… أرقام بلا مضمون
تقول الوزارة إنها أطلقت خلال السنوات الأخيرة عشرات المبادرات لتوفير فرص تشغيل في المحافظات، وإنها دعمت “برامج التدريب والإنتاج الريفي”.
لكنّ مراقبين يؤكدون أن معظم هذه البرامج قصيرة الأمد ولا تُحدث أثرًا اقتصاديًا ملموسًا.
التمويل محدود، والإدارة بيروقراطية، والمتابعة شبه معدومة.
ويضيف أحد الخبراء الاقتصادين رائد الزبن : “تتعامل الوزارة مع الظاهرة كمشكلة رقمية، لا كأزمة تنمية شاملة. المطلوب ليس مشاريع مؤقتة، بل رؤية وطنية تخلق اقتصادًا محليًا مستدامًا في الريف. الشباب لا يريدون منحة شهرية، بل مستقبلًا.”
*أحلام في مهبّ الريح
في الميدان، القصص تتحدث عن نفسها:
في عجلون، فتاة جامعية تبيع منتجات منزلية عبر الإنترنت بعد أن فشلت في الحصول على وظيفة.
في المفرق، شاب يعمل سائقًا على سيارة مستعملة بعد أن فقد الأمل في عملٍ حكومي.
وفي الكرك، أسرة بكاملها تفكر في الهجرة إلى كندا بعد أن باعت أرضها لتسديد ديونها.
كل هؤلاء هم أبناء الريف الذين وعدتهم الخطط الحكومية بالتنمية، فوجدوا أنفسهم غرباء في وطنهم، يبحثون عن فرصة حياة كريمة في أي مكان آخر.
*الريف يحتضر… والحقيقة تُغيبها البيانات
ما بين التصريحات الرسمية والواقع الميداني، يضيع جيلٌ كامل من الشباب الأردني.
الهجرة من الريف إلى المدينة لم تتراجع كما يزعم الوزير، بل ازدادت بفعل غياب الرؤية والعدالة التنموية.
فالريف الأردني لم يعد قادرًا على الاحتفاظ بأبنائه، والمدينة لم تعد قادرة على استيعابهم، لتصبح النتيجة النهائية: وطن بلا توازن، وشباب بلا أفق.
لقد آن الأوان لأن تواجه الحكومة الحقائق كما هي، لا كما تحب أن تراها في بياناتها.
فالأرض التي تهجرها الأيدي الشابة تذبل، والوطن الذي يفرّ منه شبابه يفقد روحه.
والأحلام، التي كانت تُزرع ذات يوم في تراب الريف، أصبحت اليوم في مهبّ الريح.








