منبر الكلمة

الثقة الرقمية في الأردن.. درع السيادة الجديد ومعيار استدامة الاقتصاد الوطني

عمان – في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية بوتيرة غير مسبوقة، أصبحت الثقة الرقمية حجر الزاوية في قدرة الدول على حماية مصالحها الاقتصادية وترسيخ حضورها في المشهد العالمي. وفي الأردن، الذي نجح في رفع مساهمة الاقتصاد الرقمي إلى نحو 14 بالمائة من الناتج المحلي، لم تعد الثقة الرقمية ترفا مؤسسيا أو شعارا إنشائيا، بل منظومة وطنية تحكم سلامة الفضاء السيبراني، وجودة الخدمات، وطمأنينة المواطن. فأي خلل، مهما كان محدودًا، قادر على تعطيل قطاعات مثل الحكومة الإلكترونية، المالية الرقمية، الرعاية الصحية وتجارة المنصات.

الثقة الرقمية ليست وعدا، بل قدرة على حماية البيانات، وضمان شفافية العمليات، واستمرارية الأنظمة. وعندما يحدث خلل، ينشأ صدع غير مرئي تتسرب منه الشكوك إلى وعي المستخدم، فتتراجع مؤشرات الجاهزية الرقمية. وتشير دراسات إقليمية، إلى أن 38 بالمائة من المستخدمين يعزفون فورًا عن خدمة رقمية عند أول حادثة خلل، وأن استعادة ثقتهم قد تستغرق ضعف الزمن اللازم لبنائها من البداية.

وفي السياق الأردني، تتشابك الثقة الرقمية مع بنية تحتية متطورة، وكفاءات وطنية رفيعة، وجهود مؤسسية واضحة بقيادة وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة، ومركز العمليات الأمنية الوطني، ووحدة الأمن السيبراني في رئاسة الوزراء. ورغم كل هذه الركائز، تبقى احتمالات الخلل قائمة؛ فقد يظهر انقطاع لخدمة، أو ثغرة تقنية، أو هجمة سيبرانية، أو حتى سوء استخدام للمعلومات. وهنا يتجاوز السؤال حدود التقنية إلى عمق السيادة: كيف نعيد هندسة الثقة الرقمية بكفاءة، ونحول الأزمة إلى رافعة قوة؟

أولاً، الشفافية المدروسة: المؤسسات التي تتعامل مع الأعطال بصمت تفاقم الشك العام. أما المؤسسات التي تعتمد نهج الإفصاح المُنضبط – كما يفعل عدد من البنوك الأردنية وشركات الاتصالات عند حدوث أعطال- فإنها ترسل رسالة مفادها بأن النظام آمن وقادر على الاعتراف بالمشكلة ومعالجتها. وقد أثبتت التجارب، أن الشفافية تستعيد ما يصل إلى 60 بالمائة من الثقة خلال الأيام الأولى للأزمة.

ثانياً، الاستجابة الفورية كعنصر سيادي: في الأزمات الرقمية، الزمن ليس تفصيلاً. كل دقيقة تأخير قد تضاعف حجم الضرر. لذلك أصبح وجود غرف عمليات سيبرانية نشطة على مدار الساعة – مثل تلك التي يديرها المركز الوطني للأمن السيبراني- جزءًا أساسياً من بنية الردع الرقمية. كما يلعب الذكاء الاصطناعي، دورًا محوريًا في التنبؤ بالثغرات ومراقبة السلوك غير الطبيعي داخل الأنظمة قبل أن يتحول إلى حادث فعلي.

ثالثا، رفع الحماية السيبرانية والوقاية المتقدمة: ترميم الثقة يبدأ بتحديث الأنظمة، وإجراء اختبارات اختراق دورية، واعتماد حلول متقدمة لكشف التهديدات. وتشير تقارير متخصصة، إلى أن رفع الاستثمار السيبراني بنسبة واحد بالمائة، يقلل احتمالية الاختراقات بما يصل إلى 22 بالمائة. وهو رقم بالغ الدلالة في ظل تضاعف الهجمات الرقمية عالميًا، وانتقالها من استهداف الأفراد إلى استهداف بنى الدولة الأساسية.

رابعاً، دور القطاع الخاص كشريك في السيادة الرقمية: القطاع الخاص في الأردن- وخاصة المصارف، شركات التكنولوجيا، شركات الدفع الإلكتروني، وشركات الاتصالات – يمثل ذراعًا تنفيذية مهمة في بناء الثقة الرقمية الوطنية. فهذه الجهات تستثمر في منظومات أمن متقدمة، وتنفذ تدريبات مستمرة، وتساهم في رفع جاهزية السوق، مما يجعلها طرفًا رئيسيًا لا مكملًا فقط، في منظومة الحماية الوطنية.

خامساً، ثقافة الوعي الرقمي: لا يمكن ترميم الثقة من دون تعزيز الوعي لدى المستخدم. فالمواطن الواعي يشكل خط الدفاع الأول، والمؤسسة التي تدرك أن الأمن ثقافة داخلية وليست مهمة فريق تقني فقط، تبني منظومة أكثر صلابة واستجابة. ويمكن للأردن توسيع المبادرات الوطنية لتثقيف الأفراد والمؤسسات، بما يشمل المدارس والجامعات والقطاعين الصناعي والخدمي.

سادساً، التشريعات المتجددة كإطار للحماية: القوانين التي تتأخر عن مواكبة التقنية تصبح ثغرة بحد ذاتها. ولهذا يبرز دور تحديث منظومة التشريعات الخاصة بحماية البيانات، والمعاملات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والهوية الرقمية، والمسؤولية السيبرانية.

فالإطار القانوني المرن والمستجيب، يمنح المواطن حماية واضحة، ويمنح المستثمر ثقة في استقرار بيئة الأعمال الرقمية.
إن الأردن، بما يمتلكه من كفاءات هندسية استثنائية وشبكة رقمية في توسع مستمر، قادر على تحويل أي تحدٍ رقمي إلى فرصة لتعزيز منظومته السيبرانية. فالثقة الرقمية ليست حالة ساكنة، بل مشروع وطني مستمر يتطلب يقظة واستثمارًا وتحديثًا مستمرًا.

وفي خاتمة هذا المشهد المتغير، تبقى الثقة الرقمية عنوانًا لسيادة الدول الحديثة. فالدولة التي تحمي فضاءها الرقمي، وتصون بيانات مواطنيها، وتعيد بناء الثقة بعد كل اختبار، هي الدولة القادرة على قيادة المستقبل. والثقة الرقمية ليست رصيدًا معنويًا فقط، بل رأسمال وطني، وسلاح استراتيجي، وخط الدفاع الأول عن مكانة الأردن، في عالم تُعاد صياغته بقوة البيانات وقدسية الأمان.

* مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي

alghad

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى