منبر الكلمة

السويداء: ثلاثة مشاهد على رقعة الشطرنج الإقليمية

مراد بطل الشيشاني

هذه المقالة تستدعي بعض الخيال لعرض صورة مشهدية بناءً على معلومات تم الثبت منها.

وأريدكم أن تتذكروا خلال قراءتكم هذه المقالة، أن هناك مشهديْن موجوديْن طوال الوقت في خلفية الصورة التي سنرسمها.

هما مشهدان يرتبطان بالمجازر والاشتباكات في السويداء من جهة، ودخول دروز إسرائيل إلى سوريا بعد كسرهم الحاجز الحدودي “ لنصرة إخوتهم في العقيدة“ من جهة أخرى.

ورغم أن المشهديْن مُهمّان في التعبير عن قصة الإنسان الذي يدفع الثمن الأفدح في الصراعات المسلحة، وكذلك غياب “الوحدة” داخل طائفة الموحدين الدروز، فضلاً عن فهم الأنماط السائدة لسلوكهم السياسي، لكن هذا بحث آخر قد نخوض فيه في مقالة لاحقة.

لنتخيّل رقعة شطرنج وأحجارها: المشهدان يعبران عن أحجار على رقعة الشطرنج، أمّا المقال فهو رقعة الشطرنج ذاتها واللاعبين المتنافسين؛ لذا اقتضى التنويه.

المشهد الأول

قصر الشعب في دمشق:

التاريخ: 19 يوليو/ تموز 2025

بعد ساعات من نشر المبعوث الأميركي الخاص لسوريا توم براك، منشوراً يعلن فيه توصل سوريا وإسرائيل إلى وقف لإطلاق النار، كان الفريق الإعلامي للرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع ينشر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي -خاصة المفضلة لديهم “التيلغرام“-، بانتظار كلمة الشرع عن أحداث السويداء بعد إعلان وقف اطلاق النار.

  • الشرع، حدد في كلمته، أن الاشتباكات التي بدأت في 13 يوليو/ تموز بين “مجموعات خارجة عن القانون“، والبدو، تراجعت بحكم تدخل “الدولة السورية“، لكنَّ القصف الإسرائيلي للجنوب ولمباني حكومية في دمشق، ساهم في تعقيد الأمور، ودفع إلى تزايد الاشتباكات، بعد انسحاب القوات الحكومة السورية.

من الواضح أن الشرع اتهم جهات درزية خارجة عن القانون بالتسبب بهذا التوتر العنيف، وبينما وجّه تحية إلى الدروز فقد حيّا البدو، وفزعتهم أيضاً. لكنه لم يشر إلى وجود السلاح خارج الدولة، الذي ما زال معضلة أساسية في الدولة السورية الجديدة.

الفكرة المحورية في خطاب الشرع تمثلت في عبارته: “ورغم تحذيرنا المستمر بأن غياب الدولة السورية في تلك المناطق سيؤدي إلى فوضى عارمة قد تعيد اشتعال الاشتباكات بشكل أوسع الا أن ما حدث بالفعل كان هو الأسوأ”.

أما المناطق التي يتحدث عنها فهي التي وردت في تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حين علّق على التطورات في سوريا.

المشهد الثاني

المكان: باحة عامة في تل أبيب

التاريخ 17 يوليو/ تموز 2025

يفكر أحد هؤلاء الذين يشاهدون نتنياهو وهو يستعد لتوجيه كلمة مسجلة، وفي مكان عام، بأنه يحاول التقرب من الناس حين يسجل رسالته في حديقة عامة. ويستذكر أن نتنياهو اشتهر، منذ أن كان دبلوماسياً ومن ثم في البعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة (ثمانينيات القرن الماضي)، أنه يظل يراجع كلمته، مرات ومرات، ويعدلها مرات ومرات، حتى يصل إلى نتيجة مرضية برسالة ذات تأثير.

رغم ذلك، يبدو أن من قدره، أنّه لا العرب، ولا الكثير من الإسرائيلين، يأخذون كلامه، كما يتفوه به، على محمل الصدق.

الكثير من الإسرائيليين قد يعتبرون تصريحاته مجرد كلام سياسي، أو أنه نابع من شخصيته الثعلبية، التي طالما ربطت سياسياته بتحقيق أهداف انتخابية وسياسية مختلفة، أو في إطار بحثه عن اعتراف تاريخي يضعه في مصاف القيادات الإسرائيلية التاريخية، ولو على مستوى إسحاق شامير، الذي انقلب عليه سابقاً.

أمّا عربياً، فأي حديث لنتنياهو، يُمثّل فرصة للنيل منه بشتيمة، وتخطئته -وهذا مفهوم-، فهو وراء المقتلة البشرية في قطاع غزة، التي أدمت قطاعات واسعة من البشر، خاصة في الدول العربية. لكن عدم الأخذ بتصريحاته أيضاً، يعمي عن تحولات داخل الاستراتجية العسكرية الإسرائيلية، والتحولات الجيوبولتيكية التي تعيشها المنطقة.

تجهز نتنياهو في الساحة الخضراء، ليقدم كلمة مسجلة على الموبايل، لتنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، يحدد للتدخل في سوريا هدفين أساسيين:

  1. جعل المنطقة الممتدة من جبل الدروز إلى الجولان منطقة منزوعة السلاح (وهي ذات المناطق التي يتحدث عنها الشرع).
  2. حماية “الإخوة الدروز“، والتعهد بالاستمرار في حمايتهم.

     

    يقول صحفيون زاوا القنيطرة والتخوم الإسرائيلية عند الجنوب السوري، بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بأن كل المواقع الاستراتيجية بما فيها التلال والمداخل، باتت تحت سيطرة الإسرائيليين، أو على مرمى حركتهم لـ “التعامل مع أي تهديد“، وهو تماماً ما يتحدث عنه نتنياهو.

لذا، فالتغيير الذي طرأ على العقيدة الاستراتجية لاسرائيل نابع من مسألتين:

  1. الدخول في حروب طويلة الأمد (غزة مثالاً).
  2. الهجوم عوضاً عن الدفاع (وفقاً للادعاء الإسرائيلي) ضد أي مصادر تهديد.

     

    فما حدث في السويداء كان جزءاً من تجهيز المنطقة لـ “ترتيبات أمنية“ بدأت في باكو عاصمة أذربيجان.

المشهد الثالث

المكان: قصر زاغولبا على ضفاف بحر قزوين في أذربيجان

التاريخ: 12 يوليو/تموز 2025

كرسيان أبيضان يتوسطان القاعة، وخلف علم بلاده، جلس كل من المضيف الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف المعتني بأناقته وشاربه المميز، وضيفه رئيس الفترة الانتقالية في سوريا، المعتني أيضاً بأناقته وتشذيب لحيته، أحمد الشرع.

على يسار علييف، جلس فريقه، وعلى يمين الشرع الوفد المرافق له وهم: وزير الخارجية أسعد الشيباني، ووزير الطاقة محمد البشير، ورئيس جهاز الاستخبارات حسين السلامة، وأحمد دخان مدير الشؤون التركية ودول البلقان في الخارجية السورية.

بدا الوفد السوري مرتبكاً، ويمكن أن يكون هذا لحظة التقاط الصورة، أو مرده -كما اعتاد القول محبوا ومنتقدوا الحكام الجدد في البلاد- قلة الخبرة.

لكن الشرع، وكعادته، فبدا واثقاً، ويبدو أنه كان يفكر في تصريحات براك، في اليوم الماضي، حين قال في مقابلة تلفزيونية: “ليس من الممكن أن تتنكر قوات درزية بزيّ الدروز، أو قوات علوية بزيّ العلويين، أو قوات كردية بزيّ الأكراد“، ورسالته غير المعلنة أن الأميركيين، مع بسط الدولة السورية نفوذها على أراضي البلاد كافة.

أما الرئيس الأذري علييف، فيبدو أنه سرح في هذه الأثناء، بتذكر والده السوفيتي العتيد -حيدر علييف- الذي حكم البلاد بمنطق المجموعة الدينية المنغلقة حوله، فالانخراط في الشأن السوري وتعقيداته، يذكر بتعقيدات الشطرنج، تلك اللعبة الذهنية، التي يُحرّمها كثيرٌ من فقهاء المذهب الشيعي -الذي يدين به غالبية الأذربيجانيون-، ولكن لهذا القصر ارتباط وثيق بها.

حيدر علييف صارع قيادات الكرملين، وكبار النظام الشيوعي في موسكو، في سبعينات القرن الماضي لدعم نابغة الشطرنج الأرميني الأصل، المولود في العاصمة الأذرية باكو، غاري كاسباروف، كما أنه فتح له قصره زاغولبا ليستخدمه للتأمل، والراحة، والتحضير لمباريات الشطرنج. حينها هزم كاسباروف، بطل الشطرنج العالمي الآخر، فتى الكرملين، أناتولي كاربوف عام 1985، في مباراة الإعادة، بعد أن ألغى الاتحاد الدولي المباراة الأولى بينهما لاستمرارها بالتعادل لخمسة أشهر ونصف. نعم، 160 يوماً. وفي الإعادة فاز كاسباروف وتوج بطلاً، وقال كاربوف، إن إقامته في زاغولبا كانت سبباً في تفوقه.

رقعة الشطرنج، وأحجارها، والصبر، والاستراتيجية، والحركة في الوقت المناسب، كلها أسباب استدعت هذا التفكير، حين قررت باكو الانخراط في الشأن السوري. حيث إن هذه الدولة القوقازية الجنوبية، بدأت بلعب دور الوسيط في أكثر من صراع، خاصة تلك المرتبطة بالشرق الأوسط بحكم العلاقات الجيدة بإسرائيل وتركيا. ومثل هذا الدور يرفع من الوزن الاستراتيجي للدولة، لعل أمثلة قطر والنرويج، حاضرة بشدة هنا.

ما أعلن عن نتائج تلك الزيارة كان توقيع اتفاقية للطاقة، وهنا برز وزير النفط السوري البشير، يوقع اتفاقية مع نظيره الأذري، لكن العامل الجيوبوليتيكي أبرز، حيث يبدأ من باكو واحد من أهم خطوط أنابيب النفط والغاز العالمية (باكو – تبليسي – جيهان) الذي يضمن تدفق الغاز والنفط الروسي والأذري، إلى سوريا، وما يليها، عبر تركيا، بطريقةٍ تُحيّد إيران في هذا الممر. (هناك خطان آخران من باكو أحدهما يصل إلى أرضروم والأخر إلى نوفوروسيسك للنفط الروسي).

العاملان الآخران، وفقاً لحضور الوفد المرافق العامل التركي، والأمن، وفي حالة أذربيجان، ملفها الأمني مع سوريا هو وجود مقاتلين منهم على الجانبين: الأغلبية الشيعية (ذهبت أعداد منهم لدعم نظام الأسد السابق)، ومن الأقلية السنية الذين انضموا للمجموعات الجهادية، وهو ملف ليس بالتعقيد والضخامة لقلة الأعداد، لكن الجانب الأمني الأكبر للزيارة هو ما ترشح من الإعلام الإسرائيلي عن لقاءات تمت مع الجانب الإسرائيلي، حضر إحداها، على الأقل، الشرع نفسه، حسب تلك المصادر.

مصادر قريبة من باكو ودمشق، قالت إن ما ترشح هو نوع من التفاهمات الأولية، على التدرج في العلاقة بين الطرفين الخصمين، بدءاً بـ “ترتيبات أمنية”، ومن ثم “اتفاقية سلام“، وأخيراً “التطبيع“.

ماذا حدث في السويداء اذاً؟

يبدو أن الشرع، وحسب وكالة رويترز، أخطأ في تقدير الرد الإسرائيلي، وفهم الرسالة الأميركية عن وحدة الأراضي السورية، فعمد إلى بسط نفوذه، عبر نزع فتيل التوتر القائم مع الطائفة الدرزية، الذي يتوازى مع توتر شبيه مع الأكراد، ومع العلويين في الساحل.

ترتيب هذا الملف هو أولى خطوات ضبط المشهد السياسي لنظامه. الرد الإسرائيلي دفعه للتراجع، وسواء غض الطرف، أو شجع العشائر للتحرك، فإن رسالته كانت، كما عبر عنها أعلاه، أنَّ عدم وجود دولته في المناطق التي يتحدث عنها نتنياهو، تعني الفوضى ووجود المسلحين على تخوم إسرائيل.

إذاً تشكّل المشهد، بقدرات كل طرف والمدى الذي يصل إليه، وهو أمر يمهد لنظام إقليمي، تُضبط قواعده بشكل كبير من قبل إسرائيل، بتحول في العقيدة العسكرية والاستراتيجية، ويقابله وسطاء (تركيا والأردن في حالة سوريا)، (قطر ومصر في حالة غزة)، والسعودية كلاعب أكبر اقليمياً، تسعى إسرائيل إلى ضبط الايقاع معه مباشرة، وطبعاً بوساطة أميركية.

تبقى الأسئلة المرتبطة ببناء الدولة السورية، ملحة أمام الشرع وحكمه الجديد، فهو لا يقترب من فكرة السلاح خارج الدولة، ويركز بشكل كبير عى الضخ الإعلامي البروباغندي، على حساب سياسيات حقيقية، على رأسها “العدالة الانتقالية“، والإصلاح الاقتصادي، وبناء الدولة، وهي أسئلة يبدو أنها مؤجلة لحبن ضبط المشهد الطائفي، لكن يبدو أن اللاعبين المحيطين برقعة الشطرنج، ما بعد “السويداء“ سيراقبون تلك التحولات عن كثب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى