
د. خلدون نصير – المدير المسؤول
شهد مجلس النواب الأردني في جلسته الأخيرة مشهداً سياسياً نادراً من الحدة والانقسام، بعد أن وجّه عدد من النواب اتهامات صريحة لحزب جبهة العمل الإسلامي – الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين – بوجود صلة مفترضة بينه وبين خلية إرهابية تم الإعلان عنها مؤخراً.
وعلى وقع هذه الاتهامات، جاء دفاع الحزب متماسكاً، مستنداً إلى تاريخ طويل من العمل السياسي العلني في الدولة الأردنية، ورافعاً شعار “نحن مع الوطن، لا عليه”.
في تصعيد غير مسبوق، اتّسمت الجلسة بتوتر واضح، حيث هاجم بعض النواب الحزب مباشرة، معتبرين أنه يشكّل تهديداً للأمن الوطني، وأن فكره يُعدّ حاضنة للتطرف، وقد استشهد بعضهم بتصريحات سابقة لجلالة الملك عبدالله الثاني تحدث فيها عن “من يحترفون التشكيك والعبث ويتلقون الأوامر من الخارج”، في إشارة فُهم أنها تطال قوى داخلية معروفة.
ورغم أن هذه التصريحات لم تُوجّه لأحد بالاسم، إلا أن عدداً من النواب استندوا إليها لتوجيه اتهامات مباشرة للحزب، متهمين إياه بالارتباط الفكري والتنظيمي بجماعات خارجية، وبتغذية خطاب التشكيك والفتنة في الداخل.
في المقابل، جاء رد كتلة الإصلاح – الممثلة للحزب – عبر النائب صالح العرموطي، الذي تبنّى خطاباً اتّسم بالهدوء النسبي، وركّز على التأكيد بأن الحركة الإسلامية في الأردن كانت ولا تزال جزءاً من النسيج الوطني، ولم تكن يوماً في موقع التآمر على الدولة أو السعي لإضعاف مؤسساتها.
واستعرض العرموطي في كلمته تاريخ مشاركة الحزب في الانتخابات والمجالس النيابية، واصفاً إياه بأنه “حزب سياسي أردني يعمل تحت مظلة القانون، ولم يثبت عليه أي تورط في العنف أو الإرهاب”. وأضاف بأن الاتهامات الأخيرة تمثل محاولة ممنهجة لتشويه صورة المعارضة وشيطنتها، خدمةً لأجندات لا تخدم الوحدة الوطنية.
وإذا كان من حق الجميع أن يسأل: هل نحن أمام أزمة خطاب أم أزمة ثقة؟
فإن قراءة هذا المشهد السياسي لا تكتمل دون فهم السياق العام الذي تعيشه البلاد، والذي يتّسم بحالة من الضيق السياسي وتآكل الثقة بين القوى الفاعلة. فالتحوّل إلى لغة التخوين والاتهام، واستدعاء مصطلحات “الولاءات الخارجية”، يشير إلى مناخ من الاحتقان السياسي والقلق من تصاعد الأصوات المعارضة.
لكن في المقابل، يمكن القول إن خطاب جبهة العمل الإسلامي – كما ظهر في الجلسة – كشف عن تطور واضح في أدبياته، حيث ركّز على المصالح الوطنية، وصون الحريات، والعمل ضمن إطار الدولة، وهي مفردات لم تكن بارزة في بعض خطابات التيارات الإسلامية في مراحل سابقة.
اللافت أن بعض النواب الذين تصدّروا الهجوم، لم يقدموا بالمقابل خطاباً سياسياً بديلاً أو رؤية إصلاحية شاملة، بل اكتفوا بإطلاق الاتهامات وخلق حالة من الشك، وهو ما يعكس أزمة أعمق في الحياة النيابية، تتعلق بغياب المشاريع السياسية لدى عدد غير قليل من النواب، الذين يرون في العمل البرلماني منبراً للهجوم، لا منصة للبناء الوطني.
إن ما جرى تحت القبة لم يكن مناكفة سياسية عابرة، بل كشف عن عمق الأزمة السياسية في البلاد، حيث تُناقش قضايا كـ”الإرهاب” و”الولاء الوطني” في إطار من التراشق الكلامي، لا ضمن خطاب وطني راشد يخدم المصلحة العليا للدولة.
وما بين خطاب الاتهام وخطاب الدفاع، برزت الحاجة الماسة إلى خطاب سياسي ناضج، يعترف بالاختلاف، ويحتكم إلى القانون، ويبتعد عن التخوين، ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
وأنا، كمتابع لهذا المشهد منذ سنوات، أرى أن ما جرى تحت القبة ليس سوى مرآة لواقع سياسي مأزوم، نحتاج فيه إلى إعادة بناء الثقة، وتعزيز خطاب وطني جامع، بدلاً من المزاودات السياسية التي لا تليق بمستقبل هذا الوطن.
وهذا لن يتحقق إلا من خلال تحصين الجبهة الداخلية، ووجود أحزاب سياسية وطنية حقيقية، تملك مدارس فكرية ناضجة، قادرة على تأطير الجيل الشاب ضمن مفاهيم الخطاب السياسي الواعي، لا الخطاب الانتخابي المؤقت. فوجود هذه المدارس الحزبية هو لبنة أساسية في بناء الدولة، وليس مجرد محطة عبور إلى قبة البرلمان أو سُلّم للمناصب.
حمى الله الأردن، ملكاً وشعباً ووطنًا.








