
عدنان نصار
إستهلال:
في هذا النص الوجداني، أعود إلى ذاكرة الطفولة الأولى في إربد القديمة، المدينة التي كانت تشبه قلبًا نابضًا بالبساطة والكرامة والناس الطيبين. هناك، حيث كانت الأحلام صغيرة بحجم الرغيف، لكنها كبيرة بمعناها..حيث لم يكن الزمان يُقاس بالساعات بل بصفاء النوايا ودفء الجيرة ..ورغيف خبز مشترك ؛كما احلامنا…
ها أنذا أتبختر في الصبح الباكر، فالصبح يمنحني إحساسًا بأنني أملك الموقف والوقت معًا.
في قلب المدينة، حيث تصطف حجارة البيوت العتيقة جنبًا إلى جنب، كأنها تستعرض حرس شرف المكان، أسمع وقع خطواتي يتردد بين الجدران التي حفظت أسماءنا ذات صباح.
كأن الزمن هناك لم يمضِ، بل اكتفى بأن ينام قليلًا على وسادة الذكرى.
في الشوارع الضيقة التي تفوح برائحة الخبز وصوت فيروز: “فايق لما راحوا أهلينا مشوار…”، تتسلل الذاكرة مثل نَفَسٍ دافئ من بيتٍ قديم، وتعيدني إلى زمنٍ كان الإنسان يقيس عمره بعدد الوجوه التي يبتسم لها كل صباح، لا بعدد الأيام التي تمضي.
كان البيت صغيرًا، لكنه يتّسع للفرح. جدرانه من حجرٍ وعشق، وساحته شجرة تين تشاركنا الفطور في الصيف، وتُخبئ ظلّها حين يتعب القلب من لهاث الحياة.
على حافة السطح، كانت قِلة الماء تبرّد عطشنا، وكان المساء موعدًا مقدسًا بين المصابيح الصفراء التي تروي حكاياتها على الأرصفة، وبين الطفل الذي يركض خلف أحلامه من دون أن يدري أنه يركض خلف عمرٍ جميلٍ لن يعود.
في إربد القديمة، لم يكن الناس يعرفون الترف، لكنهم كانوا يعرفون الكرامة. لم تكن لديهم قصور، لكنهم امتلكوا قلوبًا تُفتح للجار قبل الباب.
الضحكة كانت عملةً رائجة، والودّ صلاةً تُؤدّى من غير مواعيد، ولا إمام.
كان العيد مناسبة للقاء، لا للزينة، وكانت الموائد عامرة بالحب قبل الطعام.
حتى الحزن كان متواضعًا، يدخل البيوت على استحياء ويجد من يواسيه بكلمة طيبة وكتفٍ حنونة.
تتغيّر المدن اليوم، وتكبر الشوارع وتزدحم الملامح، لكن رائحة إربد القديمة تبقى كما هي: مزيج من غبار الطفولة، وصوت المؤذن، وترانيم الكنيسة، ودفء المساءات التي لا تشيخ.
هنا، في هذا الركن من الذاكرة، يتعلّم الإنسان أن القيمة ليست في ما يملك، بل في ما يشعر به حين يشارك الآخرين بسمةً أو رغيفًا أو حلمًا.
إربد… يا مدينة القلب حين كان نقيًّا مثل هوائك، ويا ذاكرة الأيام التي لم تغادرنا مهما تغيّر الزمان.
فيكِ تعلّمنا أن البيوت لا تُقاس بعدد نوافذها، بل بعدد الأيادي التي تطرقها بمحبة، وأن الإنسان — مهما ابتعد — يبقى طفلًا يحمل في جيبه رائحة خبزك، وصوت مؤذنك، ومساءاتك التي لا تشيخ.
إربد القديمة…
ما زلتِ تسكنين فينا كما تسكن القصيدة في قلب شاعرها، لا لأنك ماضٍ مضى، بل لأنك الحنين الذي يأبى أن يشيخ.








