أقلام و آراء

أزمة إنتاج النخب في الأردن: تحديات الواقع ومسارات الحل

الشاعر أحمد طناش شطناوي
رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/ إربد

لطالما شكّلت النخب، بمختلف تصنيفاتها، حجر الأساس في نهضة المجتمعات وتطورها، حيث تلعب دورًا محوريًا في صياغة السياسات، وتوجيه الفكر، وتعزيز الهوية الوطنية، إلا أن الأردن في السنوات الأخيرة يشهد أزمة حادة في إنتاج نخب قادرة على استيعاب التحولات العميقة التي يشهدها العالم، مما انعكس سلبًا على المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي، وأدى إلى فراغ قيادي وفكري أتاح المجال لظهور نخب ضعيفة أو مصطنعة، تفتقر إلى القدرة على قراءة الواقع ومعالجة الأزمات المتلاحقة.

وتتعدد أسباب هذه الأزمة، إلا أن تراجع منظومة التعليم والتأهيل الأكاديمي يبقى أحد العوامل الرئيسية، حيث لم تعد الجامعات مؤسسات لإنتاج الفكر والبحث العلمي، بل تحولت إلى كيانات تمنح شهادات علمية، دون الاهتمام بصقل مهارات التفكير النقدي والقيادي لدى الطلبة، مما أدى إلى غياب القيادات الأكاديمية المؤثرة، وإلى جانب ذلك، فإن الأحزاب السياسية الناشئة، التي يُفترض أن تكون حواضن طبيعية لإعداد القيادات، لم تعد تمتلك أي برامج سياسية حقيقية، بل تشكلت كهياكل شكلية تخدم مصالح ضيقة لقيادات بعينها، وهو ما عزز حالة الفراغ النخبوي في المشهد السياسي.

ولا يمكن إغفال الأثر السلبي للثقافة الاستهلاكية والإعلام الترفيهي، حيث أدى صعود وسائل التواصل الاجتماعي إلى ظهور نخب وهمية تُمنح التأثير بناءً على الجدل والمشاهدات بدلاً من الطرح العميق والرؤى الفكرية البناءة، ما أضعف مكانة المثقفين الحقيقيين لصالح المؤثرين الذين يكرسون سطحية المعرفة وهشاشة الوعي.
إن هذه العوامل مجتمعة أدت إلى ارتباك واضح في صياغة السياسات العامة، وضعف قدرة المؤسسات على التعامل مع التحديات، فضلاً عن تفكك الهوية الثقافية والوطنية، وازدياد تأثير التيارات الفكرية الدخيلة التي جعلت المجتمع أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية.

وأمام هذا الواقع، فقد أصبح تدخل الدولة ضرورة ملحّة لإعادة بناء منظومة إنتاج النخب، عبر إصلاح جذري لمنظومة التعليم العالي، بحيث تستعيد الجامعات دورها الأساسي في صناعة الفكر، وتعزيز الشراكة مع القطاعين الحكومي والخاص لإنتاج قيادات أكاديمية قادرة على تقديم حلول عملية للتحديات الوطنية، كما يتوجب إعادة إحياء الحراك الثقافي والفكري من خلال دعم المراكز الفكرية والمنصات الثقافية التي تعزز التفكير النقدي والإبداعي، بالإضافة إلى تفعيل الأحزاب السياسية لتكون بيئات حقيقية لصناعة القيادات بدلاً من بقائها مجرد هياكل تنظيمية بلا تأثير.

وفي ظل التأثير المتزايد للإعلام، فإن تطوير الإعلام الوطني ليكون منصة لإبراز شخصيات قيادية ذات رؤى وطنية واضحة يعد أولوية، حيث يجب الاستثمار في الإعلام الرقمي، ودعم إنتاج محتوى يعزز الهوية الوطنية، ويروج لنماذج قيادية قادرة على إحداث تغيير حقيقي، وإلى جانب ذلك، فإن إطلاق برامج وطنية لاكتشاف القيادات الشابة أمرًا بالغ الأهمية، وذلك من خلال إنشاء أكاديميات متخصصة لإعداد القادة، وتطوير برامج زمالة تربط الشباب بالقيادات المتمرسة لنقل الخبرات، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني كشريك أساسي في تشكيل نخب مستقبلية قادرة على تحمل المسؤولية الوطنية.

وأخيرًا، فإن إعادة إنتاج النخب ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان قدرة الدولة الأردنية على مواجهة التحديات المستقبلية، في ظل عالم متغير لا مكان فيه إلا للدول التي تمتلك نخبًا واعية قادرة على التكيف والإبداع، ومن هنا، فإن بناء نخب وطنية جديدة يجب أن يكون مشروعًا وطنيًا شاملاً، يرتكز على إصلاح التعليم، وتعزيز الثقافة، وتطوير الإعلام، والاستثمار في الكفاءات الشابة، لضمان أن يكون للأردن موقع ريادي في المستقبل قائم على المعرفة والابتكار، بدلاً من الاعتماد على نخب تقليدية غير قادرة على استيعاب تعقيدات العصر الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى