أقلام و آراء

فوضى على رقعة الشطرنج: نقلة من التلميح إلى التصريح

 

لا شك أن لعبة الشطرنج تمثل واقعًا سياسيًا منتظمًا، حيث تتحرك الأحجار على الرقعة ضمن خطة محكمة لتحقيق أهداف النجاح، وهي انعكاس واضح للعملية السياسية التي تعيشها المجتمعات، وضمن هذه المقاربة، يمكننا القول أن تحرك الأحجار وفق خطط هجومية أو دفاعية يحافظ على توازنات اللعبة، ولكن عندما تنهار الاستراتيجية أو تحدث نقلة خاطئة، قد يخسر اللاعب دفاعاته، وبالتالي تنهار المنظومة التي شكلها.
وفي عالم الإدارة والسياسة، ينبغي أن يكون اللاعبون الرئيسيون واضحين للعيان، لا متخفين خلف الكواليس، غير أن بعض مؤسسات الدولة، الغارقة في البيروقراطية، باتت تدار من قبل وزراء الظل، الذين لم يعد التلميح إلى نفوذهم كافيًا، إذ إن قراراتهم لا تخضع لأي مساءلة حقيقية، وهم لا يسعون إلى الإصلاح بقدر ما يعملون على ترسيخ الفوضى الإدارية وإسكات الأصوات المعارضة.
ولم يعد الفساد الإداري مجرد تجاوزات فردية، بل أصبح شبكة منظمة يديرها مسؤولون غير رسميين داخل بعض الوزارات، يمارسون نفوذهم على اتخاذ قرارات الظل عبر منظومة معقدة من المصالح والولاءات، وفي الوقت الذي يُفترض أن يتحمل الوزير المسؤولية عن القرارات الصادرة، نجد أن العديد من القرارات الحاسمة تأتي من مدراء وموظفين نافذين أو شخصيات غير معلنة، تدير الملفات الحساسة وفق اعتبارات شخصية وسياسية، دون مراعاة للكفاءة أو المصلحة العامة.

والأسوأ من ذلك، أن هذه المنظومة لا تكتفي بتعطيل الإصلاح، بل تعمل بنشاط على إقصاء كل من يحاول كشف تجاوزاتها، وبينما يتحمل الوزير الرسمي تبعات هذه القرارات، فإن صانعيها الفعليين يظلون بمنأى عن أي محاسبة.

ومن خلال اتخاذ أساليب انتقام ممنهجة، فإن من يتجرأ على معارضة قرارات وزراء الظل يجد نفسه في مواجهة آلة بيروقراطية قاسية، تستهدفه عبر آليات متعددة تهدف إلى إسكات صوته وإبعاده عن المشهد، ومن أبرز هذه الأساليب:
الإقالات والتجميد الإداري: حيث يتم نقل أو استبعاد كل من يكشف ملفات الفساد أو يعترض على القرارات غير القانونية، وإجبار الموظفين على تقديم استقالات وإحالتهم على التقاعد المبكر.
التضييق المالي والإداري: حيث تُحرم الإدارات والمكاتب التي تتبنى نهجًا إصلاحيًا من الموارد، أو يتم عرقلة مشاريعها لتجريدها من أي تأثير.
التشهير وتشويه السمعة: حيث تستخدم التقارير الإدارية لشن حملات تشويه ضد الشخصيات المعارضة، واتهامها بتجاوزات مختلقة لتبرير إقصائها.
خلق بيئة من الترهيب: من خلال زرع الخوف داخل المؤسسات، بحيث يصبح مجرد الاعتراض على القرارات أمرًا محفوفًا بالمخاطر.

ولنا أن نتساءل: إلى أين يتجه المشهد؟
إن استمرار هذه الممارسات لا يهدد فقط كفاءة القطاعات الحكومية، بل يؤدي إلى أزمة ثقة متفاقمة بين المواطن والدولة، فلا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي في ظل وجود قوى غير مرئية تتحكم بالقرارات، والحل لا يكمن في تبديل المسؤولين الرسميين فقط، بل في تفكيك هذه المنظومة غير الشرعية التي تدير المشهد من الخلف.

إن رقعة الشطرنج تشهد فوضى متعمدة، حيث تُحرك القطع وفق أجندات خفية، بينما يبقى المواطن هو الخاسر الأكبر في هذه اللعبة، لكن التاريخ يثبت أن السياسات المبنية على الفساد والقمع لا تدوم طويلًا، وأن رقعة الشطرنج قد تشهد في أي لحظة نقلة غير متوقعة تقلب الموازين.

وأصبح من الضروري مواجهة وكسر حاجز الصمت، فلم يعد الصمت خيارًا، ولم يعد التلميح كافيًا، لقد آن الأوان للانتقال من الهمس إلى المواجهة العلنية، ومن الإشارة إلى المحاسبة الفعلية، إن كشف هذه الممارسات ومساءلة صانعي القرار الحقيقيين هو الخطوة الأولى نحو إصلاح حقيقي، لإنقاذ مؤسسات الدولة من الحسابات الضيقة لمن يظنون أنها ملك خاص لهم.
واللعبة لم تنتهِ بعد، لكن الرهان اليوم ليس على بقاء وزراء الظل، بل على قدرة صاحب الولاية العامة والمجتمع على قلب الطاولة، واستعادة التوازن إلى رقعة الشطرنج قبل أن تنهار تمامًا.

النائب الدكتور شاهر شطناوي
رئيس لجنة الصحة والغذاء النيابية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى