أقلام و آراء

وزراء الظل.. عندما يتراجع دور الوزير

في الأنظمة الإدارية الرشيدة، يُفترض أن يكون الوزير هو المسؤول الأول والأخير عن رسم سياسات وزارته، واتخاذ القرارات الاستراتيجية التي تحدد مسار العمل الحكومي، مستندًا إلى رؤية الدولة وتوجيهاتها، لكن الواقع في بعض الدول، لا سيما في الأنظمة البيروقراطية المتجذرة، يكشف عن ظاهرة خطيرة تفرغ هذا المنصب من مضمونه، حيث يجد الوزير نفسه محاصرًا داخل وزارته، لا يتحكم في قراراتها كما هو مفترض، بل يصبح أداة لتنفيذ ما يُملى عليه من جهات خفية تتحكم فعليًا في القرار، إن هذه الجهات ليست قوى سياسية معارضة أو لوبيات خارجية، بل هم أشخاص من داخل الوزارة نفسها، ممن يملكون سلطة غير رسمية تفوق أحيانًا سلطة الوزير، فيما بات يُعرف بـ”وزراء الظل”.

وهنا يبرز التساؤل المهم، من هم وزراء الظل؟
على عكس ما قد يتبادر إلى الذهن عند سماع هذا المصطلح، فإن وزراء الظل في هذا السياق لا يشيرون إلى الحكومات الموازية التي تنشئها الأحزاب المعارضة في الأنظمة الديمقراطية، بل إلى فئة من الموظفين الإداريين والمستشارين ومديري الدوائر، الذين اكتسبوا مع الوقت نفوذًا هائلًا داخل الوزارات، وأصبحوا هم من يديرون شؤونها الفعلية، ويعود هذا النفوذ إلى عدة عوامل متشابكة، تبدأ من خبرتهم الطويلة التي تمنحهم دراية تامة بالملفات والإجراءات، ولا تنتهي عند شبكات المصالح والعلاقات التي ينسجونها مع مراكز القوة داخل الدولة مؤسساتها.
وهنا يظهر التساؤل الأهم، كيف يستطيع (وزراء الظل) الهيمنة على القرار الوزاري، رغم أن الوزير هو من يُفترض أن يكون صاحب السلطة المطلقة في وزارته؟
إن الطريقة التي يتغوّل بها وزراء الظل ليست مباشرة، بل تتم من خلال سلسلة من الأساليب التي تجعلهم الطرف الأكثر تأثيرًا في صناعة القرار، دون أن يكونوا بالضرورة في الواجهة، فهولاء على وعي تام بكيفية احتكار المعرفة والمعلومات، إذ يمتلكون الملفات الأساسية، ويحيطون تفاصيلها بهالة من الغموض، مما يجعل الوزير يعتمد عليهم بشكل شبه كلي، وبهذا، يتحكمون بالقرارات من خلال تحديد ما يُعرض على الوزير وما يُحجب عنه، وهذا يفضي إلى التحكم غير المباشر في القرار، عبر تقديم توصيات موجّهة تخدم مصالح معينة، أو تعطل تنفيذ القرارات غير المرغوبة من خلال التعقيدات البيروقراطية التي تجعل من أي إصلاح أمرًا شبه مستحيل.
ويتأتى ذلك من خلال نسج شبكة علاقات مع مراكز القوى، إذ يعتمد وزراء الظل على تحالفات خفية مع شخصيات نافذة سياسيا أو رجال أعمال مؤثرين، تمنحهم حصانة غير معلنة، وتجعل من الصعب على الوزير تحديهم أو مواجهتهم دون أن يدفع ثمنًا سياسيًا أو إداريًا، وهذا يفضي إلى تقليص نفوذ الوزير وعزله عن الواقع، عبر إحاطته بمستشارين وموظفين موالين لهم، وحجب القضايا التي تمس الموظفين عنه، بحيث يتراجع دوره الحقيقي، فيما تظل القرارات الحقيقية تُتخذ في أروقة لا يملك الوصول إليها بسهولة.
ومن المؤكد أن هذه الظاهرة تولد انعكاسات سلبية على العمل الحكومي، فوجود وزراء الظل لا يمر دون تأثيرات عميقة على الأداء الحكومي، فحين تتحول الوزارة إلى ساحة نفوذ لموظفين ليسوا من أصحاب الدرجة القيادية، تصبح القرارات أسيرة المصالح الشخصية، لا الأولويات الوطنية، مما يؤدي إلى إضعاف مبدأ المساءلة، لأن القرارات تصدر باسم الوزير، بينما أصحاب النفوذ الحقيقيين يظلون خارج نطاق المحاسبة، وعندما يقع خلل إداري أو سياسي، يتحمل الوزير وحده المسؤولية، رغم أنه لم يكن المتحكم الفعلي في مجريات الأمور، وبالتالي تعطيل الإصلاحات، فأي وزير إصلاحي يسعى إلى إحداث تغيير حقيقي سيجد نفسه في مواجهة غير مباشرة مع هؤلاء الموظفين، الذين يعتبرون الإصلاح تهديدًا لمصالحهم، فيعملون على إفشاله بأساليب مختلفة، مثل العرقلة الإدارية، والتسريبات الإعلامية، بل وأحيانًا خلق الأزمات داخل الوزارة نفسها، وهذا بطبيعة الحالي يؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين والموظفين بالوزارة، فعندما يدرك الرأي العام أن الوزير لا يملك زمام القرار، وأن القرار الفعلي يُتخذ في الظل، تتراجع ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، ما يؤدي إلى تنامي الشعور بالإحباط، ويجعل فكرة التغيير والإصلاح تبدو غير قابلة للتحقيق.
لكن التساؤل الأهم يقف عند كيفية مواجهة هذه الظاهرة؟
إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب إصلاحات جذرية تُعيد الاعتبار إلى موقع الوزير، وتمنع تغوّل البيروقراطية على حساب السلطة التنفيذية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة، بحيث يكون للوزراء قدرة حقيقية على الاطلاع على كل ما يجري داخل وزاراتهم، وألا يسمحوا لأي جهة باحتكار المعلومات أو تسيير القرارات في الخفاء، وإعادة هيكلة الإدارات العليا، خصوصا الدائرة الضيقة التي تحيط بالوزير، فلا يُترك المجال للموظفين البيروقراطيين للبقاء لعقود في مواقع النفوذ، بل يتم اعتماد مبدأ التدوير الإداري، وتحديد مدد زمنية لشغل الوظائف القيادية، بما يمنع تحولها إلى مراكز سلطة موازية، ولا شك أننا بحاجة إلى تمكين الوزراء من أدوات السيطرة الفعلية، بحيث يكون لهم الحق في اختيار مستشاريهم الأساسيين، دون أن يُفرض عليهم فريق عمل من موظفين يوالون وزراء الظل بدلًا من خدمة الصالح العام.
وخير رادع في هذا الجانب هو تعزيز الرقابة البرلمانية والإعلامية، وذلك عبر تفعيل الدور الرقابي للبرلمان، وتشجيع الإعلام على كشف أي محاولات لعرقلة عمل الوزراء أو الهيمنة على القرار من قبل موظفين غير مسؤولين أمام الشعب.
وأخيرًا، إن وزراء الظل ليسوا مجرد ظاهرة إدارية عابرة، بل هم أحد أكبر التحديات التي تواجه الحكومات في تحقيق الإصلاح الحقيقي، فحين تكون القرارات بيد أشخاص غير خاضعين للمساءلة، يصبح التغيير أمرًا مستحيلًا، وتتحول الحكومات إلى كيانات شكلية تُصدر القرارات بينما تتحكم بها قوى غير مرئية، لذلك، فإن أي نهضة إدارية لا يمكن أن تنجح إلا إذا تم كسر هذا النفوذ غير الشرعي، وإعادة الاعتبار للوزير كصاحب القرار الأول والأخير في وزارته، بحيث يكون مسؤولًا عن إنجازاته وإخفاقاته أمام الدولة والشعب، وليس مجرد واجهة لمراكز قوى تعمل في الظل.
فإذا كانت الحكومة قوية وفعالة، فعليها أولًا أن تضع حدًا لهيمنة وزراء الظل، لأن استمرار هذه الظاهرة يعني أن القرار سيبقى رهينة مصالح ضيقة، بينما يدفع المواطن وحده ثمن الجمود والتخبط الإداري.

النائب الدكتور شاهر شطناوي
رئيس لجنة الصحة والغذاء النيابية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى