“ذا لاين”… إلى أين؟

افاق الاخبارية

بقم جواد العناني

أطلق ولي عهد المملكة العربية السعودية، محمد بن سلمان، مشروع “ذا لاين”، أو بالأحرى مشروع “مدينة ذا لاين”، يوم الأحد الماضي، 10 يناير/ كانون الثاني الجاري، وهو مدينة ذكية، تعتمد الطاقة المتجدّدة، وتخلو من الشوارع والسيارات، وتمتد على طول 170 كيلومتراً داخل المنطقة المخصصة “لمشروع نيوم”، فهو إذن فكرة لمدينة مستقبلية، كل شيء فيها مبرمج إلكترونياً، وتراعي أقصى درجات الحرص وقواعد الحفاظ على البيئة وصيانتها.

وبحسب ما ذكره الأمير، ستكون هذه المدينة الواقعة شمالي غرب المملكة قريبة من الأردن ومصر والعراق. ومن يتأمل في تلك المنطقة يعلم أن عدد سكانها قليل، على الرغم من أهميتها الاستراتيجية. ولذلك، سيشكل المشروع جسراً عالمياً يربط السعودية بباقي دول العالم.
ويقدر أن يبلغ عدد سكانها مليون نسمة عام 2030، وقرّر لها أن تكون مركزاً نابضاً للخدمات المتطوّرة في قطاعات السياحة، والضيافة، والاتصالات، وسلاسل التزويد، والمكاتب الخدمية والمالية المتطورة، وبحسب ما سمعناه من ولي العهد، فإن المشروع سيوفر حوالي 380 ألف فرصة عمل، وسوف تبلغ كلفته عند انتهائه حوالي 500 مليار دولار.
ومع أن تفاصيل المشروع غير متاحة، ولا أسلوب تمويله، فإن حكومة السعودية تأمل أن تقوم هي بتوفير البنى التحتية، والخدمات الأساسية فيه، وتقوم بدور المطوّر الذي يبيع أو يؤجر الأراضي للراغبين المستثمرين، والذين عليهم التقيد بالشروط البيئية والهندسية والحركية المطلوبة، حتى يُمْنحوا الترخيص المطلوب لإنشاء مشروعاتهم العقارية الاستثمارية فيها.
ومن الصعب تقدير كلف البنى التحتية والخدمات الأساسية التي ستتكفل بها الحكومة، أو الشركات التي ستنفذ تلك الخدمات من طاقة كهربائية، وخطوط اتصالات توفر لأجيال 5G وَ6G الشبكات المطلوبة، أو التنقل المعتمد على الطاقة الكهربائية المعتمدة على الكهرباء المولدة بأساليب نظيفةٍ لا تحدث تلوثاً، أو تنفث غازاتٍ ضارّة في الهواء.
إذا نجحت المملكة في جذب المستثمرين، وهذا متوقع أن يحصل من المواطنين السعوديين، ومن آخرين تغريهم إمكانات المردود الجيد، فإن خزينتها ربما لن تتكفل بأكثر من 70 – 90 مليار دولار في هذا المشروع. أما النفقات التي سيتحملها الاقتصاد السعودي فلن تقل عن 350 – 400 مليار دولار. وسيكون المردود الأساسي هو إيجاد حوالي 380 ألف فرصة عمل، سيذهب 70% – 80% منها إلى مواطنين سعوديين. وبصورة تقريبية جداً، فإن كلفة إيجاد الوظيفة الواحدة داخل مدينة “ذا لاين” ستبلغ حوالي مليون دولار، وهو رقم ليس قليلاً، إذ يعادل بأسعار اليوم 22 ضعف معدل دخل الفرد السعودي عام 2020 والبالغ حوالي 46 ألف دولار.

في ظل هذا المقياس، فإن جدوى المشروع تتحقق للاقتصاد السعودي، إذا وفرت دخلاً يساوي 90 ألف دولار لكل عامل، حتى يمكن استرداد كلف المشروع خلال عشر سنوات على شكل رواتب. وكذلك لا بد أن يكون مردود المستثمرين مرتفعاً من الاستثمارات التي يقومون بها. أما إذا نُظِرَ إلى المشروع على أنه مجرّد مشروع عقاري لمدينة مستقبلية، فإن فوائده سوف تتراجع كثيراً.
النقطة المهمة الأخرى أن السعودية بلد شاسع، تبلغ مساحته ما يقارب مليوني كيلومتر مربع، ما يجعلها ثاني أكبر دولة عربية من حيث المساحة بعد الجزائر، وأكبر من السودان الذي تراجعت مساحته من 2,4 مليون إلى 1,8 مليون كيلومتر مربع بعد انفصال جنوب السودان.
ويبلغ عدد سكان المملكة حوالي 34 مليون نسمة، يتركز حوالي نصفهم في الرياض وجدة والدمام ومكة المكرمة والمدينة المنورة، وتوجد حواضر كبيرة في نجد والإحساء، والمنطقة المحاذية لليمن، مثل جيزان ونجران وأبها، وفِي الحجاز.
أما في المناطق الشمالية الغربية، حيث لا يوجد نفط ولا حجيج ولا عاصمة، فإن التوزيع السكاني يصبح نزراً وكثافته قليلة. ولهذا، فإن بناء مدينة ممتدة على طول 170 كيلومتراً يجعلها موفرة لعدد من المزايا، أولاها أن هذه المدينة تشكل حاجزاً سكانياً يجعل توزيع السكان على مختلف مناطق المملكة أكثر استراتيجيةً وجدوى، ويحيي مناطق في المملكة ليس فيها الموارد النفطية أو مناطق الحج والسياحة.
وبمعنى آخر، إن بناء مدينة ذكية بخدمات متطورة يجعلها جاذبةً للسكان القادرين على التفاعل مع الجيران في بلاد الشام عبر الأردن، والعراق، ومصر.
وثاني هذه المزايا أن بناء هذه المدينة يقدم تجربة فريدة للسعودية وفرصة لتنويع مصادر دخلها وثروتها، بعيداً عن النفط، فالمدينة الجديدة “ذا لاين” ليست زبوناً لأهم مصادر الدخل الحالية في السعودية، وهو النفط. والأمر الثالث: أن المدينة ستوفر المناخ المحفز للمبدعين من أهالي المملكة ودول الخليج والوطن العربي لكي يظهروا مهاراتهم وإبداعاتهم المطلوبة في المستقبل القريب. والأمر الأخير أن هذه المدينة العصرية ستساهم في عصرنة الدولة السعودية، وجعلها أكثر قدرةً على التفاعل مع المدن الجديدة من أمثالها في العالمين، الغربي والشرقي.

إذا أُحسِن تنفيذ المدينة، ووضعت إلى جانب التصميم المعماري المتميز تصميماً مالياً يقلل من الالتزامات المالية على الحكومة السعودية، ويضاعف حجم الاستثمارات غير الحكومية، فإن المشروع سيكون ريادياً ليس للمملكة وحدها، وإنما لمختلف أقطار الوطن العربي.

Scroll to Top