راشومون” تنتصف لـ”الضّاد” .. والجمهور يتفاجأ بالعرض

Stocks10 نوفمبر 2019آخر تحديث :
راشومون” تنتصف لـ”الضّاد” .. والجمهور يتفاجأ بالعرض

آفاق نيوز :

من يستمع إلى لغة الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيّد، في دفقات هذا القائد الحارة وصوته الواثق وبيانه الآسر، يدرك أنّ هذا الأثر اللغويّ، ربّما، طال حتّى العاملين في المسرح، في حواراتهم مساء أمس في افتتاح الدورة السادسة والعشرين لمهرجان الأردن المسرحي، عبر طبقة البيان الفصيح والعملقة الأدائيّة لطاقم مسرحيّة”راشومون” المأخوذة عن قصّة يابانيّة، اعتمدت المشهديّة الفلميّة مُتمماً لتناجي ثلاثة فنانين أدّوا أدوار الكاهن، وصانع الشعر المستعار، والحطّاب، بالإضافة إلى قاطع طريق وأحد رجال الساموراي وزوجته، لتتداعى الأحداث من خلال ثيمة البحث عن الحقيقة، عبر مفردات الخيانة والدواخل النفسيّة وأسباب الموت أو القتل والاعترافات التي ظلّت تروح وتجيء ساعةً في زمان الحفل الذي اعتاده الحضور في الدورات السابقة للمهرجان زمناً قليلاً ويحمل أحدث صرعات المسرح وأقواها؛ خصوصاً حين يتعلّق الموضوع بمسرح تونسي تتلمذ عليه كلّ رواد المسرح العربيّ ومبدعيه بوجهٍ عام.

لكنّ اللهجة التونسيّة، ومثلها المغربيّة، والجزائريّة، بل اللهجة المغاربيّة بعمومها، كانت وما تزال تشكّل عائقاً أمام تلقّي العمل المسرحي، وعلى أهميّة ذلك، إلا أنّ الأمر هنا يتعلّق بمدى التكهّن بنهضة لغوية على مستوى الدولة، بتوجيهات من رئيسها اللغوي الأكاديمي، وهو أمرٌ يمكن أن يكون، مع الحفاظ على الأسلوب والتقنيات والإبداع المعروف عن تونس في هذا المجال.

يكفي إخماداً للسان العربي

في أروقة المسرح، تساءلتُ مع الفنان التونسي وحيد مقديش أحد أبرز أبطال العرض، حول رؤيته وابتسامته الهادئة وغير المنفعلة لعمل جديد يغاير السائد، كانت بشأنه همهمات وانتقادات من نخبويين أردنيين وعرب لمخالفته ظنّهم الكبير بالمسرح التونسي، فكان أنّ الفنان مقديش بالفعل كان يحمل فكرةً ويدافع عنها هو وزملاؤه؛ فاختيارهم لنصٍّ عالمي كفعالية في المسرح التونسي والمسرح العربي وتنفيذه باللغة الفصحى هو توجّه مدروس، “فنحن كتوانسة لنا توجّه لصدّ موجة السنوات الأخيرة التي طغت على المسرح التونسي في إخماد أنفاس اللغة العربيّة؛ باعتبارها لغةً غير فاعلة في المسرح، ولأنّ الشعوب العربيّة لم تعد تتابع هذه اللغة، فاتجهت مسارحنا إلى لهجة (فيسبوكيّة) للأسف؛ فترذّلت اللغة ولم يعد أحد يهتم بها على هذه المسارح!”.

ويزيد وجع الفنان مقديش، معترفاً بأحقيّة النقد، وداعياً إلى البحث عن أنماط جديدة في الفعل المسرحي، ومنها إثبات أنّ اللغة العربيّة، وكما كانت لغة علم، هي لغة تواصل، لينفذ إلى مسألة غاية في الأهميّة، وهي ما أطلق عليه “استنساخ المسرح التونسي نفسه وعدم البحث عن أنماط جديدة”.

لا لاستنساخ المسرح التونسي

وفي هذه الظاهرة، يقول إنّنا عشنا ظاهرةً، وما نزال نعيشها منذ أواخر التسعينات؛ فمسرح فاضل الجعايبي المعتمد على المسرح الارتجالي وكتابة النصّ على الرُّكح(الخشبة)، أثّر في الفرق التونسية جميعها، الهاوية والمحترفة، فباتت تنسخ تلك العمليّة، ولذلك ابتعد كتاب وأدباء مهمّون وفاعلون عن هذا المضمار، فجاء اختيار هذا النصّ العالمي والعالي المزاج بلغة قويمة ليعطي قيمة، فلا يخلو من بعض إسقاطات على نظم العالم العربيّ الذي نعيش، فلم نكن نستنسخ ظاهرة اللهجة التي اعتمدت للإضحاك فقط، بأيّ أسلوبٍ كان، بل كان لنا توجّهنا الذي نؤمن به ونحترمه في أنّ لهذه اللغة مكانةً وقدرةً كبيرةً على التوصيل والإبهار بطبيعة الحال.

في الندوات التقييميّة أو النقديّة التي استهلّها المهرجان، وعهد بإدارتها للفنان المسرحي علي عليان، كانت التداخلات ساخنةً وعلى محكّ النقد، إذ جاء توقيت هذه الندوات مباشرةً عقب انتهاء العرض المسرحي؛ لئلا يكون أمام الناقد وقته للتجميع أو التلميع أو التعاطف أو كتابة ورقة مطوّلة، خصوصاً في أعمال لا أرشيف لها، كما كانت لرؤية الفنان عليان أهميّتها في أن تُحصر مسألة المناقشات بالعرض المسرحي لا في حوارات الآخرين أو آرائهم، مع أنّ مناقشة القراءة النقديّة أو إظهار الاختلاف أو التطابق مع أيّ شخصٍ عقّبَ أو أدلى بدلوه في مجريات العرض وجمالياته أو إخفاقاته في هذا المجال أو ذاك، أمرٌ صائرٌ لا محالة في تداول المواضيع وقراءتها، من محترفي مسرح أو نقّاد مكرّسين أو حتى مهتمين أو هواة في متابعة المسرح.

القراءة الجديدة والخروج على النمط

وكمفاتيح للندوة، تساءل الفنان عليان حول مدى استطاعة العرض التونسي “راشومون” أن يقدّم قراءةً جديدةً للنصّ الياباني المعروف، ومدى نجاحه في المزج بين المادّة الفلميّة والعرض المسرحي كإيلاج للصورة البصرية، كسينوغرافيا، وهل أفاد عنصر التطويل في خدمة العرض أم كان التزاماً بالسياق الكلاسيكي للنص؟!.. وما مدى نجاح العمل “المُفصحن” أو المشغول باللغة الفصحى في تونس المعروف عنها لهجتها المحكيّة الدراجة في المسرح والتي التي تحمل كلّ هذه المواضيع؟!..

المسرحي العراقي محمد أبو العباس، الذي أوكِلت له مهمّة قراءة العرض والتعقيب عليه بعد اعتذار المخرج الفلسطيني إيهاب زاهدة لظروفه الخاصّة، مكث في الدقائق الأولى ينفي عن نفسه صفة الناقد المسرحي، مع أنّه ومن مجريات حديثه حاصلٌ على البكالوريوس والماجستير في المسرح من جامعة بغداد، إذ وصف نفسه بالناقد الميداني، ويقصد مجموع الخبرة المتراكمة لديه مخرجاً وكاتباً ومجايلاً منذ فترة طويلة للمسرح العراقيّ والعربي ومدارس المسرح الأجنبية بطبيعة الحال.

ومع إدراكه لأهميّة النقد وأبجدياته وموضوعيّته، انتقد الفنان أبو العباس نقّاداً عرباً وأردنيين يأتون فقط ليحللوا النصّ ويتركوا الجوانب الأخرى الجماليّة فيه، فيقولون قولتهم المشهورة”كان المخرج جيداً أمّا بالنسبة للمثلين فقد أبدعوا!”.

وانطلاقاً من هذا، لم يتحدث الفنان بلغة صعبة؛ وعلى اعتبار النصّ الياباني كلاسيكيّاً كُتب منذ عام 1915، وانتحر كاتبه عام 1925 لعدم وصوله إلى نتيجة في فكرته التي ظلّت مسيطرةً عليه، وهي فكرة العرض”البحث عن الحقيقة”، التي تمّ الاشتغال عليها فيلماً سينمائياً، كواحد من الأفلام المئة في العالم “السموراي السبعة”، حيث اشتغل المخرج كوروساوا، الذي حصد جوائز عديدة، فيلما بالأبيض والأسود معتمداً على قصتين هما في الغابة، وراشيون، فتم ترجمته إلى أكثر من لغة، واشتُغل عليه أكثر من مرّة في المسرح العربي.

حاول الفنان أبو العباس أن يقتضب في حديثه، آخذاً بعين الاعتبار أهميّة الأسئلة وهروب المتحدّث في أحيان كثيرة من بعض التفصيلات التي ربما لا تروق له في العرض، ومع هذا شاهد أبو العباس العرض من زاوية مغايرة، مثبتاً نقطةً أصيلةً قبل الدخول إلى القراءة وهي تتلمذُه مع أساتذة المسرح على المسرح التونسي المعروف بمدارسه المتعددة، وقدّم فتحاً كبيراً للمسرح العربي.

رتابة الإيقاع الآسيوي وملل التكرار

وحول النصّ المكتوب بلغة فصحى، وكأنّ تذكيراً بأنّه لا بد أن يكون هناك عملٌ بلغة فصحى في المسرح التونسي، بالإضافة إلى اللهجة الدارجة في المسرح التونسي، فقد فرض العمل نفسه على المخرج حين استعاره كشكلٍ من أشكال المسرح الياباني، في استخدام الحركة والمونتاج أو تداخل الشخصيات في الحوارات أحياناً وتفسير الجمل عن طريق الحركة.

رجّح الفنان أبو العباس أن يكون مخرج العمل ذهب إلى السينما، لأنّه ربما تساءل بينه وبين نفسه: لماذا أقدّم نصّاً كُتب في بداية القرن العشرين، ونحن في العشرية الثانية للألفية الثانية، في عالم مهتم ومهووس بالتكنولوجيا؟!..؛ فكان لا بدّ إذن من استخدام الوسائل المتعددة التي هي ليست أمراً جديداً على المسرح العربيّ بشكلٍ عام، فضلاً عن المسرح العالمي.

ورأى أبو العباس أنّ المخرج حاول أن يقرّب كثيراً من تعبير الممثلين، لأنّ الكاميرا تعتني في السينما بالتفاصيل الدقيقة بلقطاتها المعروفة، والتي نفتقدها في المسرح، لأننا أمام منظومة جماليّة ومتكاملة على المسرح.

ولذلك، حاول المخرج أن يقول إنّ هذا العمل يمتلك ديمومته من خلال تقديمه المواكب للتطوّر التكنولوجي، ومع ذلك تساءل أبو العباس: هل فعلاً أسعفت هذه الطريقة طبيعة العرض المسرحي؟!

وانطلاقاً من إدراكه العميق لأهميّة سعة صدر المخرج وقبول النقد بهدف الارتقاء بالفعل المسرحي، وقف أبو العباس عند ثيمة العرض في الحديث عن البحث عن الحقيقة، وهو موضوع ربما يكون قد أُشبع بحثاً من خلال الأدبيات العالمية، مثلما حافظت المسرحية على طرازها أو قالبها الكلاسيكي، في قصة رجل الساموراي وحبيبته الجميلة واعتراض قاطع الطريق لهما و….، وهو ربما يكون قد أفقد العمل شيئاً من طموح المتلقي، هذا فضلاً عن أنّ الإيقاع كان يحتاج إلى مزيدٍ من”الشّد”.

ولذلك، كان الممثل أسيراً للكلمة أو اللغة العربيّة الفصيحة التي قد تصبح في أحيان كثيرة مقيّدةً للممثل في حال إذا تمّ استنطاقها بطريقة حِرفيّة أو رمزية، على اعتبار الكلمة رمزاً لا نستطيع أن نحوّلها إلى حياة إلا من خلال فعل تعبيري.

وواصل أبو العباس تسجيل “انطباعاته”، إذ لم يجد أيّ أهميّة كبيرة للموسيقى الملازمة للحدث، فقد ولّدت إحساساً وتراتبيّةً في المشاهد، مؤكّداً أنّ استخدام الموسيقى يجب أن ينبني على أنّها فعل حي وحيوي وعضوي في العرض المسرحي. ولذلك ربّما يذهب بنا ذلك إلى عرض متكامل في جمالياته أو إلى حالة من الملل.

طاقة هائلة للممثل حددها الحوار المرسوم

ولم يخفِ أبو العباس إعجابه الشديد بطاقة الممثلين الهائلة على المسرح، فكان من المفروض أن يعطيهم المخرج فرصةً أكبر لإظهار هذه الطاقة، خصوصاً وأنّ قوّة الموسيقى أحياناً أثّرت على وصول الحوارات إلى الجمهور، ولذلك تمنّى أبو العباس لو أنّ فترة صمت أو دخول إلى طقسيّة العرض من خلال استخدام فعّال للموسيقى، وليس فقط من أجل أن ترافق العرض، وذلك لكسر حدّة اللغة العربية الفصحى أو للتخفيف من نمطيّة أداء الممثلين.

وتساءل أبو العباس عن معنى الشاشات التي جاءتنا في المرّة الأولى على شكل خطوط، ومرّةً ثانية على شكل منقّط، وثالثة على شكل دوائر، وعلى أيّة حال، فقد تركت حرية تفسيرها للمتلقي، مع أنّ ذلك يحتاج عقلاً مدبّراً للوصول إلى نتيجة من وراء هذه الأغصان، لا سيما وقد شاهدنا في الفيلم ما يرمز للأشجار أو الغابة لتي حدثت فيها هذه “المجزرة الفكرية”، والأمر ينسحب أيضاً على المنقّب، كسجن وُضع فيه قاطع الطريق، لنجد ذلك عند الأمّ أيضاً، فهذه الروايات شتت كثيراً، ولم تساعد المخرج قضيّة استخدام السّرد العالي في العرض المسرحي.

وهو السّرد الذي رأى أبو العباس أنّه يكاد يفقدنا فاعليّة الفعل الدرامي على المسرح، فكلما دخل الثلاثة (الكاهن، والحطّاب، وصانع الشعر) تبدأ عمليّة السّرد، ونحن ننتظر ماذا يجري على الشاشة، وهو أمر ربّما أفقد العمل حسّ المتابعة بالنسبة للمتلقي.

ومع وجود تفاصيل استوقفته وآثر أن يتحدث بشأنها مع المخرج، رأى أبو العباس أنّ الممثل وقع في نمطية الأداء؛ فكأنّه مفروضٌ عليه حوار مرسوم أو مسجّل كخط أدائي، لدرجة أنّ المتلقي أحياناً لم يعد يميّز بين الممثلين، هذا بالإضافة إلى نقطة أخرى تتمثل في سؤال هل كان من الضروري أن أن يكون المخرج ممثلاً في العرض؟!، لا سيما وهو منوطةٌ به مهمة أن يراقب الممثل، لأنّ جمالياتٍ العرض تحتاج إلى عين ثاقبة، ومع أحقيّته في أن يمثّل، إلا أنّ واجباً أكبر للمخرج وهو خلق الشخوص وتحريكها على المسرح بفاعليّة كبيرة.

ومع ذلك، استدرك أبو العباس بأنّ العرض كان مغايراً، وأنّ ملاحظاته الانطباعيّة لا يريد منها نسف العمل أو التقليل من شأنه، فقد أحبّ العرض لوجود الكثير من الأعمال الفلسفيّة العميقة فيه والتي حاول النصّ أن يوصلها للمتلقي، ولذلك فإنّ واجب المسرحي حين يقف مع المسرحي في نقاش هو أن يكون النقد أو الانطباع بعين صافية ومحبّة وناصحة في الوقت ذاته نحو مسرح متألّق يستفيد من نقاشات متكاملة للعروض.

اللوحة السينمائية.. تشتيت الأداء وضياع الإسقاط

وقفت مناقشات الجمهور على فائدة العمل في تعريفه بالثقافة اليابانيّة، والإشادة بفلسفة البحث عن الحقيقة، والحرص التونسي على لغتهم الأم، وما يمكن أن يلمحه المتلقي من ثيمة الكاهن أو رجل الدين كتنافذ يمكن أن يطال أبعاداً سياسيّةً عديدة معيشة، لا يتوقف عند الحكاية بما فيها من تشويق، وأنّ على المتلقي النخبوي أن يكون صبوراً في تلقيه فلا يملّ، وأنّ النص الحواري حمل طبقة بيان رائعة شعريّة تفاعل معها الحضور، بغضّ النظر عن طول العمل، كما وقف متداخلون عند العرض وعناصر الزمان والمكان ومدى احتراف مقومات المسرح والسينوغرافيا الخاصة به، إذا ما تجاوزنا سحر النصّ، مؤكدين أهمية الفن العربي بالتوشيح والإضاءة كمصفوفات بصريّة، محترمين جماليات النصوص الكلاسيكية. وتساءل متداخلون عن مدى الموائمة بين الصورة والعرض الخشبي، ومدى انسجام شخوص العمل مع صفات السموراي الياباني، ناصحين بـ”تونسة” العمل، محتفظين بأحقيّة المتلقي في تأويل النص.

ورأى متداخلون أنّ مسألة اللغة هي مسألة خلافيّة، وأنّ استخدام الفصحى لعمل كلاسيكي هو مصدر قوّة ولا يفتّ من عضد العمل، كما أنّ أداء الممثلين لم يكن متفاوتاً، بل منسجماً، فلو استمر لأكثر من ساعة فلن يشعر محبّ العرض بالملل. أما فكرة البحث عن الحقيقة فموضوعٌ أزلي، كما أنّ راشمون قد تكون نموذجاً لمدن عبر العالم، في مسألة الخطيئة والشّر، بل هي مدن عربية الآن وفي المستقبل إذا لم يتم التراجع عن الشّر، كما حملت المداخلات فكرة عدم وجود قطع ديكور على الخشبة، لكنّ الأداء الجسدي والمادة الفلمية كانت مفيدةً جداً إذ تحوّلنا في العرض إلى قاعة سينما، وهذا لا ينفي تكرار السرد عن طريق الشاشة، وكان ينبغي القفز عن هكذا أشياء، في حين كان الإيقاع آسيوياً يابانيّاً بامتياز فرض على الممثلين الأداء في ظلّه.

من المداخلات ما وصفت العرض بأنّه حشد لجهود كبيرة على الخشبة، وأنّ الثيمة، بغض النظر عما إذا تمّ الاستعانة بالشاشة لخلق مشهدية سينمائيّة، كانت كافية لإنتاج حالة دراميّة متميّزة أضاعتها الحالة السينمائيّة في التشتيت أو عدم التركيز على فكرة الصراع أو البحث عن الحقيقة، كحالة نصل فيها إلى الذروة، بالرغم من أنّ توظيف السينما أمرٌ جميل، لكنّ للمثلين طاقةً هائلةً كان يمكن الاستفادة منها في خلق حالة من الإسقاط، دون أن يسجننا الفيلم في الحالة البوليسيّة، مع أهمية إشارات الطفل الرضيع في نهاية العرض باستمرار المأساة وأنّ الحياة لا يمكن أن تكون نموذجيّة.

وقفت مداخلات عند العرض المسرحي المخالف تماماً عن النمط والانطباع المتكوّن عن المسرح التونسي، وفي قراءة الرؤية الإخراجيّة وتحييد النص، فقد حاول المخرج أن يكون أميناً في القراءة، في حين نختلف على دقّة تصوير البيئة اليابانية، ومع ذلك فقد كان العرض جميلاً، لكنْ، هل يذهب إلى واقع سياسي واجتماعي في وطننا العربي؟!.. ومسألة أخرى، وهي أنّ شخصيّة الكاتب أيضاً قد تسقط في صراع بين المنظومة الكهنوتيّة مع القوى المسيطرة اليوم. ولذلك، فقد كان المخرج متعمداً أن يشتغل على مستويين، مستوى المادة الفلمية ذات الطابع الحركي المشهدي الأقرب إلى الفعل المسرحي، حيث المستوى الذي يقدّم على الخشبة أقرب إلى السرد، إلا في مواقف معيّنة، وهو ما يعطي مسوّغاً للمخرج لأن ينجح في هذا الجانب ليعمق الجانب المسرحي. وفي مداخلاتهم تساءل الحضور عن مدى مواتاة بعض الممثلين لشخصيات العمل، كالمرأة المتزوجة مثلاً، كما أن فلسفة العرض تقوم على مسألة نسبية، حيث الفلسفة اشتغلت على أكثر من حقيقة مسموحٌ التأويل في تلقيها للجميع.

من المتداخلين من ذكّر بمصباح ديوجين الباحث عن الحقيقة في رابعة النهار، وتساءل عن غياب المعادل الموضوعي بين النص كلاسيكي والثقافة الفلسفية، فأين هي الفلسفة السياسية والاجتماعية والأسئلة العديدة للهوية أو أيّ شيء آخر، وفي حين كان الأداء منضبطاً بشكلٍ عالٍ والفضاء المسرحي كان مكثّفاً بقصديّة إخراجيّة أدائيّة واضحة، فقد أراد المخرج أن يلمح إلى بوابة راشومون، والسؤال حول تكثيف الجهود التقنية في الإيقاع والصورة والسينوغرافيا في تأثير البيئة، ففي المشهد الأول كان الممثل يدخل ولم يبتلّ بقطرة ماء، مع أن الفيلم كان يحمل صوت المطر والرعد، في ظلّ أنّ العمل أراد التصوير الدقيق للبيئة المسرحية وتأثيرها على خشبة المسرح. أمّا الخطورة الثانية في النص فهي أنّه عُرض وتمت مشاهدته مرات عديدة، وذلك ما يحيلنا إلى إن نعقد مقارنات، فنقول”كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”. أمّا الإيقاع والحركة والتكوين فمواضيع تحتاج نقاشاً، حيث الرتابة في الخروج والدخول للكادر التمثيلي إلى خشبة المسرح كان يضعنا في رتابة وشكلٍ ممل، فالإيقاع الصوري الحركي التأثيري يجب أن يتجدد لأننا في مسرح وفن صناعة العرض بأدوات ووسائل غير مرئيّة محسوسة، وكعمل فلسفي وعميق يحتاج وقتاً طويلاً لأن يتمّ إنجازه.

من المتداخلين من تساءلوا عن التفرقة بين المسرحين: التونسي والعربي في الثيم والنمطيّة والريادة والتقنيات والأساليب والتجديد، وكيف يمكن أن نشتغل على ثيمة نستعيرها من نصوص عالمية، مع الحفاظ على بيان لغوي تحمله اللغة العربية الفصحى، مع أهميّة العمق في التناول، والتركيز على تونس في مراحل تحوّلها، وربيعها ونهضتها، وهي المراحل التي كان يمكن أن يتناولها أو يشتغل عليها العرض.

ومن المتداخلين من ركّز على رؤية اليابانيين لأنفسهم ورؤيتنا لهم من منظور الأعمال المستعارة، وهو ما يتطلب الإلمام بالثقافة اليابانيّة وقراءتها جيداً، في رؤيتهم للمرأة والثقافة التقليدية، وما مدى قراءة نصوصهم القصيرة المعتمدة على السموراي والصراع والأساطير والآلهة. أما في ما يخصّ الشاشة فكانت أشبه بحوائط ورقيّة وتشكيلات للظل، لكنّ انتقاداً كان في أنّ صوت السلاسل التي تقيّد بها قاطع الطريق كان من داخل الفيلم وليس حيّاً على الخشبة وهو ما ضيّع فرصة قويّة على الحضور، وتحديداً من النخبويين.

لا بدّ من التجريب وكسر النمط

المخرج لطفي العكرمي اكتفى بأن اهتمّ بالنقد الموجّه والنصائح التي تنمّ عن جمهور أردني وعربي متابع وحسّاس بالنسبة للعملية المسرحية، فهو جهد مسرحي جماعي، تمّ فيه اختيار النص والمزج ما بين الشاشة والمسرح.

رأى المخرج العكرمي أنّه كممثل يهمّه أداء الممثل، فهو يغار كثيراً، ويحب أن يكون على المسرح، باعتباره ممثلاً قبل أن يكون مخرجاً، أما الإخراج فهو فكرة، وبصفته ممثلاً ومخرجاً في الإذاعة التونسيّة نفّذ العديد من النصوص العربيّة مع فنانين كبار، تظل تستهويه اللغة العربية التي تجمع العرب، معتزاً بالمسرح التونسي والفن الذي وحّد العالم، لكنّه ظلّ مؤمناً وحزيناً لحال اللغة في التوصيل، فمن الضروري أن يتم كسر حاجز اللهجة المحكيّة، باعتبار اللغة العربية واحدة لدى كلّ العرب.

ومع حبّه وتعلّقه باللغة العربية، يظلّ المخرج العكرمي يخشى الوقوع في مطبّات اللغة في كثير من عناصرها، معترفاً بقوّة أداء ممثلي العرض وطاقاتهم الخلاقة. وعن النصّ الياباني قال إنّه استهواه هذا النصّ وأغراه لأن يخرجه، وفقاً لعناصر الإيقاع المدروس والأداء والفرجة والمشهدية، لافتاً إلى تجارب المخرج التونسي الراحل المنصف السويسي في فترات الثمانينات والسبعينات من القرن الماضي. فهي تجارب جديدة تسهم في الخروج عن النمط والتجديد كما رأى المخرج العكرمي، صانع سينوغرافيا العمل والممثّل فيه، وهو يعرّف على فريق مسرحية “راشومون” الممثلين: وحيد مقديش، ونصيب البرهومي، وشهاب شبيل، وإلياس العبيدي، ونورهان بوزيان، وكوثر بلحاج، والدراماتورج: رياض السمعلي، ومصممة الملابس: جليلة مدني، وأحلام الزريدي ويوسف العكرمي ورياض التوتي في الإضاءة والموسيقى.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

تنويه