المسحراتي …ظواهر وطقوس..؟

 

احمد ابودلو –الأردن

يا غفلان وحد ربك وبالتقى عمر قلبك
ما يوم تقلق على رزقك دا ربنا عالم بالحال
يارب قدرنا على الصوم وأحفظ أيماننا بين القوم
وارزقنا يارب باللحم المفروم أحسن يا رب ما ليش أسنان

كان ولا زال المسحراتي يدق على طبلته منشدا المواعظ والقصص ومحييا سكان الدار ، وينفرد الشهر الكريم بميزات متعددة وانماط معينة ، مثل المسحراتي الذي أخذ على عاتقه ايقاظ الناس لتناول السحور ، والسحور بفتح السين كالوضوء والسعوط ونحوهما : اسم لما يؤكل وقت السحر ، او ما يتسحر به من طعام وشر اب ، والسحرة- كسمرة – السحر الاعلى ، تقول أتيته بسحر وسحره . والسحور : فعل الصائم نفسه اي تناوله السحور وتسحر : أكل السحور ، والسحر ما بين الفجر الصادق والكاذب ، لان له وجها من النهار ، ووجها في الليل فلا يسمى سحورا الا ما كان في ذلك الوقت ، فالسحور طعام السحر وشرابه .
وحدو الله ياعباد الله
اصح يا نايم وحد الدايم
هذا النداء الحبيب الذي يطرق القلوب والاسماع في الهزيع الاخير من الليل يوقظ النائمين ليتسحروا، قال الرسول عليه الصلاة والسلام : تسحروا فان في السحور بركة . وقد يما كان المسلمون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفون جواز الاكل والشرب بأذان بلال ويعرفون المنع بأذان ابن ام مكتوم ، وفي الحديث الشريف ( ان بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن ام مكتوم ) . والتسحير اي سحره بالتشديد :خدعه وكذا اذاعلله ومثله سحر بالتخفيف ، وقوله تعالى : انما أنت من المسحرين . قيل : المسحر المخلوق ذا سحر – كسب او صقر – أى رئة . وقيل المعلل .
وقد اطلقها العرف على ايقاظ النوام في رمضان كي يتنبهوا ويتأهبوا فيأكلوا ويشربوا قبل حلول وقت الامساك ، ولما كان السحور يقع في أخريات الليالي ، حيث تهدأ الجوارح وتقر الجنوب ويلذ الاغفاء ، اتخذت الوسائل قديما وحديثا لتنبية الصائمين لوقت التسحير وبخاصة ان صحة الصوم تتوقف على معرفة نهايته بالتحديد الدقيق. .
اشهر المسحرين :
وكان ممن اشتهروا بالتسحير في مكة ((الزمزمى)) الذي كان ينادى من فوق المسجد معلنا بدء السحور ، ومعه اخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه فيقول :
نياما قوما قوما للسحور
فيردد الطفلان ما قاله ثم ينشد :
ايها النوام قوموا للفلاح
واذكروا الله الذي اجرى الرياح
ان جيش الليل قد ولى وراح
اشربوا عجلى فقد لاح الصباح
تسحروا غفر الله لكم
تسحروا فان في السحور بركة

وكان في كل مرة ينادى فيها يرخى طرف حبل في يده فيتدلى منه قنديلان كبيران ، فمن لم يسمع النداء يبصر القنديلين يهبطان. فاذا لم يبصرهما يدرك ان وقت السحور قد فات . كما كان بلال رضي الله عنه يجوب الطرقات لايقاظ الناس للسحور .
وكذلك اشتهر ابن نقطة في بغداد مسحر الخليفة الناصر لدين الله وقد عرف ما يقال في التسحير أيامه (بالقوما) ومن قوله ( قوما تسحر قوما) ، وعندما مات ابن نقطة ذهب ابنه وكان له صوت جميل ورقيق ووقف تحت قصر الخليفة ثم انشد بصوت مرتفع :
ياسيد السادات لك في الكرام آيات
أنا ابن ابو نقطة تعيش ابويا مات
فسمعه الخليفة واعجب بسلامة ذوقه ولطف اشارته وحسن بيانه مع ايجازه ، فأحضره وخلع عليه ورتب له ضعف ما كان لوالده ولم يقتصر التسحير على الرجال ، اذ عملت في هذه الحرفة الرمضانية بعض النساء بأثبات ما انشأ الشيخ زين الدين بن الوردي في احدى المسحرات في ليالي رمضان قائلا :
عجبت في رمضان من مسحرة بديعة الحسن الا انها ابتدعت
قامت تسحرنا ليلا فقلت لها كيف السحور وهذي الشمس قد طلعت

ومنذ 1200 سنة تطوع والى مصر عنتبة بن اسحاق بمهمة تسحير الصائمين فكان يخرج كل ليلة ويسير على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط الى جامع عمرو بن العاص وهو ينادى الناس للسحور بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تسحروا فان في السحور بركة)) ثم تطورت عادت التسحير ، فكان اهل مصر اول من سحر على الطبله وكان اهل الاسكندريه يسحرون بالنبابيت يدقون بها الابواب . . وفي فترات متقطعة من الليل يطوف المسحراتي متخللا الشوارع والازقة والحارات بفانوسه الصغير وطبلته التقليدية التي اخذ ينقر عليها نقرا رتيبا ، ويقف على باب كل دار مناديا النوام الى السحور ( سحورك يا نائم ) وداعيا افراد الدار بأسمائهم لينال بعض الخير او يترقب منهم في نهاية الشهر نفحة العيد ، ويظل هكذا حتى الهزيع الاخير من الليل يوقظ النوام باللحن الجميل قائلا:
ياعباد الله وحدوا الله
اصحى يانايم ووحد الدائم
سحور يا صايم
وما ابدع المسحراتي المصري وهو يتجول في الدروب في هزيع الليل فاذا وصل احد القصور او البيوت وقف ببابه وانشد يقول :
اصحى يا اسماعيل بك ربنا يزيدك مقام
وتزور الكعبة وبيت الله الحرام
ثم يواصل سيره مستغرقا في الحانه ، سارحا ببصره نحو النوافذ المفتوحة التي اطل منها الاطفال او الكرماء لرؤيته ونفحه ببعض المال ويستمر يقول حتى ينتهي وقت السحور :
بأسأل ألهى الكريم
يحييكم المولى لكل عام
ووضع الزجال المشهور الشيخ محمد النجار :
ثبت هلال رمضان وقالوا صيام لرؤيته والشك زال اليقين
أحياكم المولى الى كل عام وكل عام وانتم بخير طيبين

والمسحراتي رجل من عامة الشعب كان يقوم بداية متطوعا بمهمة ايقاظ النوام ليلا طول شهر رمضان وتراه يسير في الطريق ممسكا بيده اليسرى طبلة صغيرة وبيده اليمنى سيرا من الجلد او خشبة صغيرة ينقر بها على طبلته ( تم … تم… تم) وهو ينشد الحانا خاصة يكون لها سحر ونشوة لانها تتم في وقت خشعت فيه الاصوات وقلت الحركات ، وفي الايام الاخيرة من رمضان نسمعه يودع رمضان بالحان ونغمات مبكية حزنا على فراقه ، ونشاهده في العيد يمر على البيوت لتقاضى اجره من الاهالى ، اما نقدا او بكميات من الكعك او الفطير . وقد كان المسحراتي فيما مضى موضع تقدير واكرام من جميع الطبقات الاغنياء والفقراء على السواء وان كان قد اصبح اليوم مادة للسخرية والبهدلة من الاولاد والشبان .
وفيما بعد اصبحت مهنة (المسحراتي ) مهنة يتقاضى عليها اجرا جزيلا ، والمهنة مقصورة على بعض الاسر المتخصصة بها ، ولها مشيخة ، والشيخ منصب وراثي ويتقاضى اجره من التابعين له ويجتمعون اليه قبيل النصف الثاني من شعبان لتوزيع المناطق بينهم او استئجار تسحيرها ولحسم الخصومات بينهم وللمنهة نقيب مهمته التفتيش ويساعده شاويش يقوم بمهمة الاتصال بين المسحرين وشيخ المهنة . ويتقاضى المسحر اتي اجره يوميا قبيل الافطار من جميع البيوت التي يطوف بها في الليل ، صحون تختلط فيها صنوف الطعام والسلطات والحلوى حتى صارت هذه التشكيلية مثلا شاميا ( صحن المسحراتي ) او سلة المسحر ، وفي بعض الاوقات يقوم الاطفال بالسير وراء المسحر لسماع غنائه وطبلته او ينتظرونه ليضايقوه وهم يهزجون :
ابو طبلة … مرتو حبلة .. شو جابت ؟ ما جابت شىء .. جابت جردون بيمشي !
ومع هذا ينسى المسحر عند الشهر الكريم كل المضايقات والليل والزمهرير ( بالعيدية ) التي يدفها رب الاسرة شاكر اول ايام العيد ، وقد غابت صورة المسحر الان فلم يبق من شخصيته الا الظل الباهت في الحارات والازقة القديمة .
وتنوعت طرق واساليب المسحرين في ايقاظ الصائمين اذ كان التسحير في غير الجوامع يتم بوساطة الطبلة المعروفة لدينا الان ، يطوف بها اصحاب الارباع وغيرهم على البيوت ويضربون عليها ، وكان اهل الاسكندرية واليمن وبعض اهل المغرب يسحرون بدق الابواب على اصحاب البيوت ، وينادون عليهم : قوموا كلوا .. ويسحر اهل الشام بدق الطار او الدف كما يعرف اليوم ، وضرب الشبابة والعزف على العيدان والطنابير والصفاقير وغناء بعض الاشعار والاهازيج الداعية الى التسحير ، وكان المغاربة يضربون بالنفير – البوق – على المنارة ويكررونه سبع مرات ثم يضربون بعده بالابواق سبعا او خمسا ، فاذا انتهوا حرم على الصائمين تناول طعام السحور .

Scroll to Top