توكارتشوك .. من علاج الإدمان إلى الفوز بنوبل

آفاق نيوز : لعل الروائية البولندية أولغا توكارتشوك (57 عاما) لم تتخيل حين قدمت استقالتها إلى إدارة المستشفى، كاختصاصية في معالجة الإدمان، أنها بدأت، في ذلك اليوم البعيد، تشق طريقها نحو جائزة نوبل!

ولا تجد توكارتشوك حرجا في الاعتراف بأنها في تلك اللحظة، أدركت أنها أكثر اضطرابا من أحد مرضاها، ربما لأنها أكثر هشاشة من العمل في هذه المهنة.

بدأت رحلتها في عالم الأدب بكتابة الشعر. وتوالت أعمالها ناسجة طيفا واسعا من القراء المحبين، حتى بلغت ثماني روايات ومجموعتين قصصيتين، مرورا بجوائز أدبية مختلفة، أحدثها جائزة نوبل، عبر أكثر من خمسة وعشرين لغةً زارتها من بوابة الترجمة.

وُلِدت الروائية البولندية سنة 1962 وعاشت مع والديْها في جزيرة سكنها مثقفون يساريون، مع أنهما لم يكونا كذلك. ساهمت الكتب الكثيرة التي تعثرت بها الطفلة في تكوينها الثقافي.

درست علم النفس في جامعة وارسو. ورغم تركها العمل في معالجة الإدمان، ظلّت دراستها لعلم النفس رافدا مهما لعالمها الروائي فيما بعد.

بيد أن توكارتشوك لم تتنازل عن اختياراتها التي تبدو مجنونة للكثيرين. فبعد ترك العمل مع مدمني المخدرات والكحول، سافرت إلى لندن ودرست الإنجليزية، وعملت في مصنع لتجميع أجهزة الإرسال والاستقبال الهوائي (الإيريال)، ثم أصبحت عاملة في تنظيف الغرف بأحد الفنادق الراقية، وهو ما ألهمها بعضا من إبداعها المبكر، حيث كتبت قصصها الأولى بعينيْ عاملة تنظيف تتخيل قصصا عن ساكني الغرف التي تنظفها، استنادا إلى أمتعتهم المبعثرة في الغرف.

في تلك الفترة أيضا، قرأت توكارتشوك كثيرا عن النسوية التي لم تكن وقتها قضية مطروحة في بولندا.

على نحو ما ظلت توكارتشوك مشدودة إلى عوالم المهمشين، ربما لم تكتب نصوصا تتناول الإدمان، لكنها انحازت للغجر أو البدو الرّحّل (بحسب اختلاف الترجمات). تقول على لسان بطلة روايتها “بيغوني”، التي تُرجِمت إلى “البدو”: “عندما نتوقف عن الترحال نصبح أصناما. من يتوقف يصبح مثل حشرة مثبتة بدبوس، يخترق قلبه مسمار خشبي، تثقب أقدامه ويداه ويتم ربطه بالسقف وبعتبة البيت…… لذلك يضمر الطغاة بكل أصنافهم وعبدة الجحيم كرها عميقا للبدو والرحّل”. في رواية أخرى تتناول توكارتشوك قصة وسيطة روحانية عاشت في بدايات القرن العشرين.

وفي روايتها، الفائزة بجائزة البوكر سنة 2018، “رحلات” تسافر عبر الزمن إلى القرن السابع عشر وتحكي عن عالم التشريح الهولندي فيليب فيرهين، الذي شرّح ساقه المبتورة ورسمها. ثم تقتحم القرن الثامن عشر، لتحكي عن رجل وُلد في شمال أفريقيا لكنه يظهر بعد موته في النمسا، وهكذا. وقد صدرت “رحلات” عام 2007 وسبق لها الفوز بجائزة نايك سنة 2008 قبل أن تفوز بالبوكر عن ترجمة جنيفر كروفت لها بعد عقد كامل.

وهي تروي حادثة طريفة عن هذه الرواية. فحين أرسلتها إلى الناشر اتصل بها ليتأكد إن كانت قد أرسلت ملفا آخر، فقد شعر أن هذا الكتاب ليس رواية وتوقع أنها أرسلته سهوا، لتفرّد بنيته الروائية وتشظيها زمنيا وجغرافيا.

وفي رواية “كتاب يعقوب”، الصادرة في 2014، تسرد قصة قائد غريب هو يعقوب فرانك، الذي عاش في القرن الثامن عشر، وقاد حملة غريبة لدمج التعاليم المسيحية مع اليهودية، مدّعيا أنه المسيح، معمّدا أتباعه. استغرقت توكارتشوك في دراسة موقع تلك الأحداث القديمة وأجوائها التاريخية، في المنطقة الفاصلة بين بولندا وأوكرانيا اليوم. فازت الرواية بجائزة نايك الثانية لتوكارتشوك، وهي الجائزة التي عُرِفت بالبوكر البولندية، كما تصدرت أكثر الروايات مبيعا في بولندا.

لكنْ في غمرة فوزها بالجائزة ونشوتها بنجاح روايتها، أقدمت على إلقاء آرائها الصادمة في وجه الإعلام. فقد تحدثت في مقابلة مع التلفزيون الحكومي عن التاريخ الأسود لبولندا وما ارتكبته من فظائع بحق شعوب أخرى، مثل استعمار دول مسالمة بدون وجه حق، وهو ما أقام الدنيا ولم يقعدها.

تلقّت تهديدات كثيرة بالقتل، حتى اضطر ناشرها إلى توظيف طاقم حراسة لحمايتها. وكانت الخطورة عليها، في تقديري نابعة من سيادة التوجه اليميني المعادي للاجئين في أوروبا كلها، وهو ما أدى إلى فوز حزب القانون والعدالة اليميني المحافظ في بولندا، وتولي حكومة يمينية إدارة البلاد، تزامنا مع انتصارات أخرى لليمين في أوروبا، واتساقا مع مزاج شعبوي عام، يميل إلى اللهج بالشعارات القومية والتغنّي بالأمجاد.

تعلّق توكارتشوك بعد ذلك: “لقد كنت ساذجة جدا. ظننت أننا بتنا قادرين على مناقشة الصفحات السوداء في تاريخنا”.

على أنّ هذه الطبيعة المشاغبة تبدو أصيلة لديها. فبعد الواقعة السابقة عُرض الفيلم المقتبس عن روايتها “سر بمحراثك فوق عظام القتلى”، التي صدرت في 2009، وانقض الإعلام والحكومة البولنديان عليها وعلى الفيلم. وصفته إحدى وكالات الأنباء البولندية بأنه: “عمل مغرق في عدائيته للدين المسيحي.. ويشجع على الإرهاب البيئي”. كانت الرواية تتناول جريمة غير تقليدية وتنحاز للحيوانات، وهو ما يتسق مع كون توكارتشوك نباتية.

وقد جاء احتفال مدينة فروتسواف، حيث تعيش توكارتشوك، بفوزها بنوبل لائقا بطبيعتها المتفردة، فاحتفلت سلطات المدينة بها بمنح حاملي كتبها، ورقية أو إلكترونية، الحق في ركوب المواصلات العامة مجانا، خلال نهاية الأسبوع.

يبدو احتفال مدينتها بها غريبا على ضوء العداء السياسي الواضح بينها وبين النظام السياسي اليميني، مثلما يبدو غريبا أيضا أن تمنحها نوبل جائزتها لعام 2018 مع منح الجائزة لعام 2019 لكاتب يميني يعتز بصداقة أحد أشهر سفاحي أوروبا المعاصرين.

هل اختارت إدارة نوبل توكارتشوك حتى تصلح ما أفسدته فضيحتها الجنسية العام الماضي؟ ربما، ولهذا حديث آخر.

Scroll to Top