وَهْمُ تشكيل الأحزاب .. إنطلى على البعض

كتب عوض ضيف الله الملاحمه

بداية ، وقبل ان أتحدث عن الأحزاب ، أجد انه علينا ان نفهم ، وان نعرف ضرورة وجودها ، وآلية تشكيلها ، ومستوى قدرتها على تأطير أهدافها ، ومبادئها ، وحتى أدبياتها ، وما هي الظروف التي جعلت تاسيسها متطلباً وطنياً ضرورياً .

رأيي المتواضع ان الأحزاب الحقيقية لا تُشَكَّل بقرارات ، وهِبات ، ومراسيم ، وأوامر ، ولا رعاية ، او وصاية من أحد . الأحزاب تَفرِض نفسها ، إفرازاً وإستجابة لظروف ومتطلبات وطنية ، وتكون متطلباً ملحاً لا خيار غيره ، ولا بديل عنه ، لتأطير العمل للمواجهة ، وفرض حلول وطنية . ثم ان الولادة الطبيعية للأحزاب تأتي من رحِم الشارع ، من القاعدة ، وليس من القمة ، لأنها تظهر تلبية لمُتطلب وطني . وعليه تكون هناك هَبّة جماهيرية وطنية ، مقتنعة بضرورة تشكيل الأحزاب لتأطير متطلباتها ، وفرز قياداتها ، وليكون الحزب وسيلة تنظيمة لتأطير الجهود الشعبية لتحقيق غايات مجتمعية كبرى ، سامية ، وعظيمة كتحرير أوطان مُحتلة او مُستعمَرة ، او تحرر الإنسان من العبودية ، او تصحيح مسار أوطان إنحرفت بوصلتها وبدأت بالتراجع والإنهيار ، بتمأسس الفساد ، وغياب العدالة ، وإنعدام الحرية ، وزيادة الغطرسة ، وإستخدام أساليب التجبر والقسوة وإظهار القوة والعنف لتكميم الأفواه ، وتجفيف مداد الأقلام ، وحبس حرية أصحاب الفكر المعارض ، وإمتهان كرامة الإنسان ، وانهيار التعليم ، وتراجع الخدمات الصحية ،وإنتفاء العدالة ، وغياب التنمية ، وإنتشار الفقر ، والغلاء ، وإنهيار الإقتصاد ، وإستسهال الإقتراض .. وغيرها .

الأحزاب مثل الحرية تُنتزع ولا توهب . الأحزاب تحتاج الى قيادات تتمتع بشخصيات كاريزمية ، لها مصداقية ، ولها تاريخ يُحترم ، ولها دور مجتمعي يُشار له بالبنان ، ولها تاريخ مُشَرِّف ، وسيرة ومسيرة ناصعة . الأحزاب تحتاج الى نهج ، وفكر ، وأهداف نبيلة سامية عامة ، تتمثل في مباديء ، وأهداف الحزب ، وأدبياته الإنسانية الراقية .

مع ان عدد المنتسبين ل ( ٤٨ ) حزباً يساوي ( ٣٦,٩٤٤ ) عضواً ، يشكلون نسبة ( ٠,٠٠٤٩ ٪؜ ) حسب إحصائية عام ٢٠٢٠ . ومع ان الأرقام تُظهر ان النسبة ضئيلة جداً ، هل من المنطق ان يتم السماح ل ( ٣٦,٩٤٤ ) مواطناً ان يُفرز لهم ( ٤١ )نائباً !؟ أي هل من المنطق ان يكون لكل ( ٩١٠ ) مواطناً نائباً يمثلهم !؟ لا بل انه بعد بضعة دورات نيابية ربما يصبح لكل ( ٤٠٠ ) مواطنا حزبياً نائباً !؟

رغم الإقبال الضعيف جداً على الإنتساب للأحزاب ، الا إن مجرد وجود الإقبال يُحزنني . صدقوني إنني أعتبره تكالباً ، رغم ضعفه ، لأنه سيكون له أضراراً مجتمعية تزيد أضعافاً عن خديعة بورصة عام ٢٠٠٩ ، التي هزت المجتمع الأردني إقتصادياً وإجتماعياً . الخسارة الكبرى عند الإنتساب للأحزاب تطال كرامة ، وأنفة الأردنيين . لأنه يكتنفها الخِداع ، والمُتاجرة بكراماتهم ، مقابل تحقيق فئة لأهدافها المتمثلة بإعادة إنتاج أنفسهم للإستمرار في تولي المناصب العليا ، لا بل وإستخدام الحزب وأعضائة وسيلة لتوريث الأبناء وحتى الأحفاد .

غالبية الأشخاص الذين شكلوا الأحزاب ، خاصة في الفترة الأخيرة ، جَهِدوا لتأسيس أحزاب لتحقيق أهدافٍ شخصية ، وهذا واضح وجلي ، وعليه الكثير من الأدلة ، وسأطرح لكم بعضاً منها :— ١ )) أظنكم لاحظتم ان بعض الأحزاب إبتدعت عشرات مسميات المناصب الفخرية والشكلية ، التي ليس لها علاقة بالعمل الحزبي ، والغاية من هذا الإفراط إختلاق مسميات لإسترضاء أصحاب المعالي والسعادة ، لانهم لا يقبلون بتسميتهم أعضاء فقط دون إشغال مراكز تناسبهم حسب إعتقادهم . ٢ )) أظنكم لاحظتم إقدام عددٍ من هؤلاء الأشخاص على تقديم إستقالاتهم من تلك الأحزاب إما لانهم لم يحصلوا على مسمى يُرضيهم او لأنهم خرجوا ( من المولد بلا حُمّص ) . ٣ )) ألم تلاحظوا ان كل توزيعات المسميات تمت بتفاهمات وبالتراضي ، لا بل وانه لم يتم إجراء إنتخابات نهائياً !؟ أية أحزاب ، وأية ديمقراطية عرجاء هذه !؟ وهل هذه بدايات تليق !؟

أبشركم بأن الإستقالات ، والمشاحنات والمناكفات ، والإحتكاكات ، وحتى المناوشات العشائرية ستطفو على السطح بشكلٍ مُشين بعد الإنتخابات النيابية القادمة ، لأنها سترتد الى خلافات عشائرية . وانها ستؤدي الى إنهيار بعض الأحزاب وإختفائها من الساحة الحزبية .

ما أطرحه ليس أكثر من تحليل منطقي ، وهو ليس تشكيكاً ، ولا نيلاً من أحد . لكن تنبيهاً الى ان الوطن ينحدر بشكل متسارع في كل شيء إبتداءاً من التعليم ، والصحة ، والموازنات المهترئة ، المُنهَكة ، وإنتهاءاً بمسار يُسمى الإصلاح السياسي ، والذي هو في الحقيقة إنهياراً سياسياً متسقاً مع إنهيارات إقتصادية ، وإجتماعية . فهل ستعمل الأحزاب في واقع غير واقعنا حتى يَصِح مسارها ، وتساهم في تصحيح مسار الوطن !؟ كيف لها ان تساعد في إصلاح أوضاع الوطن وكثير من الإختلالات تكتنف مسيرتها هي !؟

يؤسفني ان أقول ان الغالبية المُطلقة ممن ينتسبون للاحزاب ليسوا اكثر من أدوات يتسلق عليها أصحاب المناصب العليا لإعادة إنتاج وتدوير أنفسهم . مكرراً أسفي وإعتذاري الشديدين على هكذا توصيف ، فأنا لا أقصد إحراج أحد مطلقاً ، ومؤكداً ان قسوة الكلمات ما هي الا توصيفاً لأخطاءٍ إرتكبوها بحق أنفسهم ، وأنا لست مسؤولا عنها ، ولا سبباً فيها . طالباً ممن شَعر بقسوة التوصيف ان يُنقِذ نفسه ، وأن يتبع المثل الشعبي (( مِن رَدّْ عِدُّه ما شرد )). إبتعدوا عن خداعٍ سيطال كراماتكم . ويا خوفي ، ويا حُزني ويا حسرتي عليكم إذا إكتشفتموه بعد وقوع الفأس في الرأس .

صدقوني ، وأقولها لكم بكل أمانة ، أنكم ستكتشفون ان أحزاب التسعينات من القرن الماضي — رغم ضحالة نهجها — الا أنها أشرف ، وأهدافها أوضح ، وأنظف من أغلب الأحزاب الحالية . لأن أحزاب التسعينات كان يقودها رجال على الأقل يتمتعون بشخصيات كاريزمية ، يُضاف الى ذلك وضوح أهدافهم وبُعدهم عن الخداع . لأن رئيس الحزب كان يتكفل بكل مصاريف الحزب ، والإنفاق على المحتاجين من الأعضاء ، كما كان الأعضاء يتحصلون على مكاسب شخصية كالتعيين ، والترقي الوظيفي . اما الأحزاب الحالية فإنها تفتقر الى كل ذلك ، لا بل ويعتريها الخداع المُبيّت . وبعدما تقع الفاس في رؤوس الكثيرين ، ويتبدى إمتطاء النفعيين لهم ( لا تقولوا عوض ما قال ) . نصيحة لوجه الله تعالى ، والنصيحة كانت بجمل .

بإختصار ، ومن الآخر ، الدولة العميقة ، تهدف الى إقناع الغرب بأن لدينا ديمقراطية . لكن الهدف المستتر — الذي يُضمَر ولا يَظهر — أنها تُعيد إنتاج وتدوير رجالاتها ليتقلدوا ، ويتقلبوا ، ويورثوا المناصب للأبناء وحتى الأحفاد بواسطة إستخدام هذه الأحزاب كوسيلة يمتطونها للتغطية ، وذر الرماد في العيون ، وليقولوا ان أحزابهم هي التي أتت بهم . وأختم ببيت من الشِعر يقول :-
لقد أبصرتُ بين الناس فرقا / فمنهم عائمٌ والبعض غرقى .

Scroll to Top