مغارة برقش

Stocks14 أكتوبر 2019آخر تحديث :
مغارة برقش

آفاق الاخبارية –

– أرجوكم أن تسمحوا لنا بالذهاب, فلم نعد أطفالا”!!!

– الموقع حديث الاكتشاف و قد اتصلت شخصيا بهيئة تشجيع السياحة للاستفسار عنه و بالذات ان كان آمنا بالدرجة الأولى و كانت الاجابة – و ان كانت صادمة – لكنها واضحة: نحن لا نملك معلومات عن وجود هذا المكان!

– ولكن من الناحية الأخرى, أبي اتصل بالشرطة السياحية و هم طمأنوه بأنهم سيصلونا في عشر دقائق عند الحاجة هذا الموقع قريب من مركزهم في عجلون, أليس هذا كاف لتطمئنوا؟

– هل تتحمل مسؤولية رفاقك؟ لا تشجعهم و تهون المغامرة عليهم. أنا أعلم جيدا كم هو غال كل شاب في مطلع الشباب على أهله. أن يسمحوا له بالذهاب الى هذه المنطقة ضرب من الجنون. ربما عليهم أن يطلعوهم جيدا على ما ينوون عمله.

– لا عليك, كلهم واعون و متحمسون و نعدكم بأن نأخذ حذرنا.

لذنا بالصمت أنا و والده تتنازعنا من ناحية رغبة ملحة بتشجيع هؤلاء الشباب المتحمسين لاستكشاف موقع مثير وغامض لم يروا مثله من قبل , و من ناحية أخرى يتملكنا شعور قوي بالرهبة من مجهول لا بل قد يكون خطر يتربص بهم , و خصوصا أن الجهات المعنية بالترويج لهذه المواقع لا تعلم بوجوده أصلا!

بعد عدة جولات من الضغط و الالحاح رضخنا لرغبة ابننا و هو طالب متميز في سنته الأولى (آنذاك) في كلية الحقوق. اتفق الأصدقاء الستة على خوض هذه التجربة في أحد صباحات الربيع و شدوا رحالهم مزودين بشجاعتهم و حماسهم أكثر من العتاد و العدة و ذلك لجهلهم بما سوف يحتاجونه. ارتدوا أحذية طويلة و حرصوا على شحن أجهزتهم الخلوية ليتمكنوا من الاتصال بنا و من ناحية أخرى لتستخدم ككشافات ضوء لتوقعهم عدم وجود انارة كافية في الداخل, و ربما أخذوا بعض الأطعمة الخفيفة و الماء.

استقلوا سيارتين للموقع. أقل ابننا ماجد في سيارته صديقه أسامة و هو شاب ذكي و حسن المعشر في سنته الاولى في كلية الطب البشري, ورافقهم شاب مهذب يدعى نشأت, تعرف عليه ماجد مؤخرا في بلدتنا و سرعان ما أصبحوا أصدقاء. أما السيارة الثانية فكانت لصديق ماجد المقرب الذي يعتبره كأخ له و هو أيضا في السنة الأولى في كلية الطب و يدعى ليث. يرافقه صديق الطفولة اللطيف فادي و ابن عم ماجد و يدعى نجيب و هو شاب دمث , و كلا الأخيرين في السنة الأولى في كلية طب الاسنان.

انطلقوا في الصباح الباكر متوجهين من منزل جدة ماجد في الحصن الى منطقة غابات برقش. الطريق كان سهلا و مريحا الى أن وصلوا الى مفترق طرق يؤدي بهم الى مدخل الغابات. هناك أخذت الطريق تضيق وتزداد القيادة فيها صعوبة و ان كانت تحمل مناظر خلابة تخطف الأبصار تفوق جمال جبال لبنان و اوروبا .اصطفت الأشجار الخضراء بكثافة على جانبي الطريق حتى تكاد تخفي من يسير عليها. تناثرت بعض البيوت القروية هنا و هناك تحيط بها المزارع و الحضائر. بعد قليل و صل المغامرون الستة الى مدخل ترابي لا يكاد يرى لولا وجود علامة صغيرة تشير الى وجود “مغارة برقش”. و قد يغفل الناظر عنها بسهولة ان لم يكن يبحث عنها بالذات. من الشارع الرئيسي لا يبدو أي معلم دال على مغارة أو ما شابه, فلا يعدو كونه ممر وعر يحده مزرعة بسياج مهمل و تفوح رائحة الروث منها. فلولا اننا زرنا الموقع و مشينا في هذا الممر سابقا, لما عرف ماجد المكان أبدا. كنا في نزهة بالسيارة و نزلنا هناك لاستكشاف المنطقة لنفاجأ بوجود المغارة. لم تسعفنا شجاعتنا للدخول اليها و قفلنا راجعين متناسين ما وجدنا , لنعي أن ماجد كان له خطة مختلفة لاحقة.

قاد ماجد المسير الى مدخل المغارة حيث تقبع صخرة كبيرة لتبدأ من هناك رحلة الاستكشاف. هنا أحسوا جميعا بهيبة الموقع و غموضه. ولجوا المدخل الضيق ليمشوا بضع خطوات في الممر الرئيسي , لكن سرعان ما بدأ ضوء الشمس بالخفوت تدريجيا ليصل الى ما يشبه العتم الدامس بعد مسافة ليست بطويلة. ترددوا للحظات بالاستمرار فهم لا يكادون أن يروا سوى بضعة اطارات على الجوانب وضعت كدليل. شجعوا بعضهم البعض و تقدموا في سرداب طويل يغالبون خوفهم الداخلي, تارة بدافع فضولهم و تارة أخرى بافتعال الشجاعة و اخفاء الرهبة التي أخذت تنمو بوتيرة متصاعدة مع الاختفاء التام لجميع خطوط الضوء من خلفهم. وقفوا في السرداب دامس الظلام متفقين على السير بخط مستقيم يمسك الواحد منهم يد التالي حتى اذا ما زلت قدم احدهم تمكن رفاقه من الامساك به. التقط كل منهم هاتفه الجوال ليضيء كشاف الضوء و ليتأكدوا أنهم يستطيعون الاتصال بنا لطلب المساعدة ان اقتضت الحاجة. هنا أكاد أجزم ان الرعب تملكهم عندما ادركوا أن لا وجود لأي خدمة جوال في موقعهم! ولا بد أنهم أخذوا يتساءلون عن جدوى الاستمرار في المضي قدما, اذ ليس هناك ما يستحق المغامرة! أعترف لي ماجد لاحقا أنه في هذه اللحظة شعر أنه ربما جر رفاقه الى هذا المكان الخطر المعتم بلا طائل!

لم تمضي هنيهات من التردد و التفكير ليتبدد كل هذا عندما رفعوا رؤوسهم ليروا ما أضاءت لهم كشافاتهم من جدران المغارة! ما هذا! يا لها من جداريات فائقة الروعة! ما هذه النوازل المخروطية الملونه المدلاة هنا و هناك؟ انظروا الى هذه الخطوط و الرسومات الطبيعية البديعة؟! نادى كل من عنده يدعو الآخرين لرؤية ابداعات الطبيعة في كل الزوايا و يلتقطوا الصور النادرة التي لم يروا مثلها من قبل.

أصبحت فكرة العودة مرفوضة من الجميع. لم يكونوا بحاجة لتشجيع بعضهم للمضي. وصلوا الى سراديب و ممرات ضيقة. لا أحد يعلم الى اين ستؤدي. بدأوا جميعا يشعرون بالرطوبة الواضحة و كأنهم على مشارف بحيرة مغلقة. وتلمسوا الجدران الرطبة و استكشفوا زخارفها الطبيعية بحرص لاحساسهم بأنها قد تكون هشة قابلة للتلف. وصلوا الى سرداب لا يمكن الولوج منه وقوفا اذ لا يكاد يتسع الا لشخص متوسط الحجم زاحفا فارتفاعه لا يعدو الثلاثين سنتمترا”. لم يدرك أحد منهم مدى خطورة المرور خلالها اذ انها قد تنهار تحت ثقلهم أو ربما ينهار سقفها الرطب فوق رؤوسهم. قد يكونوا أدركوا ذلك لكن فضول المغامرة و الرغبة باستكشاف المزيد هو ما دفعهم لاستكمال الولوج للداخل. أحس بعضهم بالخطورة و اقترحوا أن يبقى منهم من يراقب الباقين تحسبا لطارئ يستدعي الخروج لطلب المساعدة. لكن مع تعالي صيحاتهم داخل النفق يدعون بعضهم البعض لرؤية المزيد من عجائب الطبيعة, انتهى بهم الأمر بالمرور تباعا عبر النفق ليصلوا الى دهاليز أخرى متفرعة. كانوا شجعان و لكن المغالاة في المجهول خطيرة أحيانا. أحس بعضهم أنهم بدأوا يستشعرون صعوبة بالتنفس. هنا بدأوا يتفقدون بعضهم البعض ليتأكدوا أن الجميع على ما يرام.

– انتظروا لحظة! اين نشأت؟! لقد تقدم عنا!

– نشأت!

– نشأت سامعنا؟

– نشاااات!وينك؟؟؟؟

– نشأأأأأأت, نشأأأأأت!!!

مرت الثواني ثقيلة للغاية على الرفاق الخمسة, يتوقعون كل ما قد يصيب رفيقهم. هل سقط في بركة ماء؟ هل انهار به الممر؟ هل أغمي عليه من نقص الهواء؟ هنا أكاد أجزم أن الدم تجمد في عروقهم جميعا”, و أولهم ابني ماجد صاحب الفكرة و المشجع عليها! يليه نجيب الصديق المشترك الذي عرف نشأت على هذه المجموعة. بين الخوف وتوقع الخطر الذي قد يكون طال نشأت, أجزم نجيب أنه سينقض على نشأت فور ظهوره سالما لما تسبب به لهم من الرعب لاختفائه و انفصاله عنهم و هو في داخله يدعو الله ألا يصيبه مكروه و يرد على نداءاتهم.

فجأة سمعوا جميعا جلبة , و اذا بالرفيق الضال يظهر من خلفهم! هاجوا جميعا فرحا ممزوجا بالحنق على صديقهم يلومونه و هو يؤكد أنه كان يسمع نداءهم و يجيبهم و لكن هم لم يسمعوه. أجل ان المغارة مليئة بالدهاليز و الممرات المتصلة. هنا و هنا فقط تغلب الشعور بالمسؤولية على الفضول باستكشاف المزيد, خصوصا انهم علموا سلفا أن مساحة المغارة تزيد عن الألف متر مربع و تمتد لبضع مئات من الامتار تحت الأرض.

قفلوا راجعين يتتبعون ما وضعوه سابقا من علامات لتنفرج اساريرهم برؤية بصيص ضوء ينفذ للداخل.

خرجوا منتشين بحمى المغامرة الشيقة ليعتبرونها من أمتع التجارب في حياتهم.

هذه المغارة الغامضة كنز و ارث عالمي. أجمع الجيولوجيون الذين عرفوها أنها من أجمل ما خطت الطبيعة و توازي مغارة جعيتا بلبنان. يقدر عمر هذه المغارة بأربعة ملايين عاما”. تم اكتشافها حديثا” منذ خمس و عشرين عاما. أيعقل أن تبقى منسية و مهملة؟ العتب الشديد على المعنيين بلفت الانتباه لهذه الأعجوبة و تجهيزها و رعايتها ليتمكن المغامرون و السياح من استكشافها.

المؤسف و المؤلم هو ما طالعتنا به صحيفة اليوم عن خبر لحريق يأكل جزءا من هذه المغارة و يغطي معالمها الجميلة بطبقة سوداء, فضلا عن الغيمة الداكنة التي اغلقت المدخل و أتت على الأكسجين داخل المغارة مما يمنع امكانية الدخول اليها حاليا”. هذه هي المرة الثانية في هذا العام وفق تصريح بلدية برقش. و قد أبلغوا وزارة السياحة سابقا بضرورة حراسة المكان و ايلائه اهتماما أكبر. ها هي الحادثة تتكرر على نحو افظع و أكثر دمارا. هذه جريمة بيئية و انسانية طالت ارثا تاريخيا عمره 4 ملايين سنة. مرتكبو الجرم ليسوا فقط مضرمي الحريق! بل كل من ااتمن عليها و لم يصنها.

د. رحاب غنما

24تشرين أول 2017

🌹 اعدت كتابة هذا “البوست” السابق لاشكر من استجاب رسميا لنداء هذا الموقع و التفت لأهميته و اعتنى به … وجهتي القادمة قريبا ❤

الآن الدور على الإعلام لتسليط الضوء على الموقع المحدث و الذي يستحق أن يكون على قائمة السياحة العالمية كإرث انساني…

#عشق الاردن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

تنويه