منبر الكلمة

غزة بين إعمار الدمار وإعمار الإنسان

 

عدنان نصار

ليست غزة مجرد جغرافيا منكوبة تنتظر شاحنات الإسمنت، بل ذاكرة حيّة تنبض رغم الركام، ومدينة تتنفس تحت الحصار كأنها تُعيد تعريف البقاء كل يوم. فكل مرة تُهدم فيها منازلها، تنهض من بين الغبار بوجهٍ جديد، لكنها تظل تحمل الوجع ذاته: وجع الإنسان قبل الحجر.

منذ سنوات والعالم يتحدث عن “إعادة إعمار غزة”، وكأنها مشروع هندسي قابل للقياس بالأمتار والموازنات. لكن الحقيقة أن إعمار الدمار المادي لا يكتمل من دون إعمار الإنسان الفلسطيني، الذي لم يعرف يوماً طمأنينة العيش ولا استقرار الأحلام.

البيوت يمكن أن تُعاد بناؤها، لكن من يعيد بناء قلب أمٍ فقدت أبناءها؟
ومن يرمم ذاكرة طفلٍ صار يخاف من ضوء النهار لأنه يذكّره بصوت الطائرات؟
من يعيد الأمان إلى مزارعٍ لم يبقَ له من أرضه سوى رائحة التراب؟

الإعمار الحقيقي يبدأ من الإنسان، من قدرته على أن يحبّ الحياة مجددًا، وأن يرى في الغد نافذة لا جدارًا. فغزة لا تحتاج فقط إلى الحديد والإسمنت، بل إلى مدارس تُعلّم أطفالها كيف يحلمون دون خوف، وإلى مستشفيات تُعيد للروح عافيتها قبل الجسد، وإلى مؤسسات تُنصف الكرامة قبل أن توزّع المساعدات.

في كل حرب، تُختصر غزة في صور الدمار، لكن وراء الصورة شعبٌ يصرّ على الحياة.
نساء يخبزن الخبز على ركام البيوت، أطفال يركضون بين الأنقاض كأنهم يلعبون في حدائق من نور، وشباب يكتبون شعارات الأمل على جدران مهدّمة. هذه ليست مشاهد بطولية فحسب، بل رسائل صامتة إلى العالم بأن إعمار غزة يبدأ من روحها.

لقد آن الأوان أن يدرك العالم أن إعمار غزة ليس منّة، بل واجب أخلاقي وإنساني. وأن إعمار الإنسان فيها هو الضمانة الوحيدة لأن لا يتحول الركام إلى دورة دمارٍ جديدة. فحين يُعاد بناء الإنسان الفلسطيني، يُعاد بناء الشرق كلّه، لأن غزة كانت – وما زالت – ميزان الكرامة في هذه المنطقة.

غزة لا تطلب الشفقة، بل العدالة.
ولا تنتظر الهبات، بل الاحترام.
هي مدينة تجرّعت الحروب، لكنها لم تفقد القدرة على الحب، ولم تتخلَّ عن إيمانها بأن الفجر يأتي ولو بعد ألف ليلٍ من الحصار.

فلتكن المرحلة المقبلة عنوانًا لإعمارٍ مزدوج:
إعمار الحجر ليقف، وإعمار الإنسان ليحيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى