
عدنان نصار
رحل أحمد سليم الفحماوي “أبو العبد”، كما اعتاد الناس أن ينادوه، بهدوء يشبه صباحات مدينته التي أحبها أكثر من نفسه. غاب الرجل الذي كان يملأ مقهاه الصغير في قلب إربد القديمة بنكهة خاصة، لا تشبه رائحة البنّ وحدها، بل رائحة الذاكرة، والوفاء، ودفء الرفقة.
في المقهى الذي كان أقرب إلى بيتٍ مفتوح للجميع، كان أبو العبد يعرف الزبائن واحدًا واحدًا، يعرف طلباتهم قبل أن ينطقوا، ويعرف حكاياتهم التي تُروى وتُخفى بين رشفات القهوة ونكهات النرجيلة. كان حضوره يمنح المكان حياةً لا تُقاس بالضجيج، بل بالابتسامة التي تسبق “صباح الخير”، وبالتحية التي تخرج من القلب لا من العادة.
طرقات إربد القديمة تفتقده اليوم؛ تلك الأزقة التي كانت تحفظ وقع خطواته، وذاك الركن في السوق الذي كان يقف فيه يسأل المارة عن أحوالهم، كأنه أحد ملامح المدينة لا مجرد ساكنٍ فيها. أبو العبد لم يكن تاجرًا في القهوة فقط، بل راويًا صادقًا لحكاية المدينة، ومرآةً لأهلها الطيبين الذين يرون في البساطة وجهاً للكرامة.
كنتُ أجالسه في الصباح، لأحتسي معه كوب الشاي المعتّق، وأشعل لفافة تبغ من الصنف الجيد، قيل لي إنها صناعة وطنية. كان في تلك الجلسات ما يشبه دروس الحياة الصغيرة؛ صمتٌ يحمل حكمة، وضحكة تختصر تعب الأيام، وكلمة طيبة تُقال في وقتها فتُعيد إلى القلب شيئًا من طمأنينته.
الذين عرفوه عن قرب، يعرفون كم كان قلبه واسعًا. يجالسك كصديق، ويمازحك كأخ، ويستمع إليك وكأنه يعرف وجعك قبل أن تحكيه. لم يكن المقهى بالنسبة له مشروعًا تجاريًا، بل ساحة لقاءٍ للناس، ومجلس دفءٍ إنسانيّ لا يُقفل بساعة.
اليوم، حين يمرّ الأصدقاء من أمام المقهى، سيشعرون بأن الكراسي خالية إلا من الذكرى، وأن صوته الذي كان يملأ المكان بـ “أهلاً وسهلاً يا غالي” صار صدًى يوجع القلب.
سلامٌ على روحك يا أبا العبد، يا من تركت في رائحة البنّ أثرًا لا يُنسى، وفي ذاكرة المدينة حكاية رجلٍ أحبّ الناس فبادلوه الحب والدعاء.
إربد تفتقدك، ومقهى قلبك سيبقى عامرًا بالذكرى والوفاء.









رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته ودام ألق مدادكم