
عدنان نصّار
في كل زاوية من هذا الوطن، ثمة وجوه تعرفها دون أن تراها كثيرًا. وجوه تكدّ وتبتسم، تعمل بصمت، وتتحمل بصبرٍ لا يشبه إلا صبر الجبال التي تطلّ على مدننا وقرانا. هؤلاء هم البسطاء… ملح الأرض وذاكرة الخير في الأردن.
حين تسير في الأسواق الشعبية، أو تمرّ قرب محالّ الخضار في الصباح الباكر، تلمح تلك الأيدي الخشنة التي تصنع لقمة اليوم بعرقٍ نظيف. البائع الذي يبتسم رغم ركود السوق، والسائق الذي يرفع صوته بالدعاء أكثر مما يرفع أجرته، والعامل الذي يلوّح لابنه من بعيد وهو يغادر إلى عمله المرهق… هؤلاء هم صورة البلد الحقيقية، لا الشعارات ولا البيانات..ولا الولائم ، ولا الخطب الرنانة المفرغة من الوفاء..
في زمنٍ ازدادت فيه الفواتير وقلّت فيه الفُرص، ما زال الأردنيون يحتفظون بخيطٍ رفيع من الأمل. لا يثورون كثيرًا، لكنهم يئنّون بصوتٍ يسمعه من يعرف لغة الوجع. يضحكون في المقاهي، ويتبادلون النكات، لكن خلف تلك الضحكات همٌّ كبير، وكرامة لا يساومون عليها.
يؤلمك أن ترى من ضحّى بعمره في الخدمة، يعيش اليوم على هامش الحياة، وأن تسمع عن خريجٍ يطوي شهادته لأن “الواسطة” سبقت علمه. يؤلمك أن تكون الطيبة عبئًا في زمنٍ لا يعترف إلا بالدهاء، وأن يصبح الصادق “مغفّلًا” في عرف الطامحين إلى الثراء السريع.
ورغم ذلك، يبقى الأردني ثابتًا مثل شجر الزيتون في أرضه، يواجه القسوة بابتسامة، والخذلان بكرامة، والفقر بصبرٍ يشبه البطولة..لا يطلب المستحيل، ولا يرفع صوته إلا حين يُمسّ عيشه أو كرامته. يعيش بسيطًا، لكن بداخله بحر من الوفاء والعناد الجميل، عناد البقاء في وطنٍ يحبّه حتى وإن أتعبه.
في القرى، ما زالت النسوة يبعنّ المونة ليبقين كريمات.. في المدن، والريف ، والبادية ، ما زال الشباب يسهرون على أحلامٍ صغيرة، يكتبونها على نوافذ الأمل كل صباح. في الحارات، ما زال الجيران يتقاسمون الخبز والملح والهموم، وفي البيوت القديمة ما زال دفء “القهوة العربية” يرمّم المسافات بين القلوب.
هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحفظ توازننا وسط هذا التعب العام. هي التي تجعل الأردن، رغم كل ما يحيط به، وطنًا لا يُشبه سواه. فالأوطان لا تُقاس بما فيها من ناطحات سحاب، أو سيارات فارهة ، ولا مسؤولين ينظرون من خلف نوافذ مظللة ، بل بما فيها من قلوبٍ صادقة لا تنكسر.
لسنا بحاجة إلى خطبٍ ولا وعود. نحن بحاجة إلى من يرى هؤلاء، إلى من يعيد الاعتبار للإنسان قبل المؤسسة، وللكرامة قبل الإنجاز. فحين يُكرَّم البسيط، يزدهر الوطن كله. وحين تُصان لقمة الكادح، تصان صورة الأردن التي نحبها جميعًا: نقية، عنيدة، ومشرقة رغم التعب.









اللهم أصلح أحوالنا