الأردن بين المطرقة والسندان: قراءة سياسية وقانونية في حياده الفاعل وسط التصعيد الإسرائيلي الإيراني

د. ثروت الحلواني – أستاذة الفلسفة في القانون ومستشارة قانونية .
في الوقت الذي تهتز فيه خرائط الاستقرار الإقليمي تحت وقع الضربات الإسرائيلية العنيفة ضد أهداف نووية وعسكرية إيرانية، وردّ طهران عبر طائرات مسيرة اخترقت أجواء عدد من دول المنطقة، يبرز الموقف الأردني كأنموذج فريد في موازنة الشرعية القانونية والسياسة الواقعية.
أولًا: موقف قانوني يستند إلى السيادة
استباقًا لأي تهديد محتمل، بادرت الحكومة الأردنية إلى إغلاق مجالها الجوي، وهو قرار يتكئ على مبدأ السيادة الجوية المنصوص عليه في اتفاقية شيكاغو للطيران المدني (1944)، وميثاق الأمم المتحدة، الذي يخول الدول حماية أراضيها ومجالها الجوي من أي تهديد خارجي.
هذا الموقف القانوني المحكم يشكل حماية داخلية، لكنه أيضًا رسالة واضحة للمجتمع الدولي: الأردن لن يسمح بأن تُستغل أراضيه أو أجواؤه في صراع ليس طرفًا فيه، ولن يكون منصة لأي هجوم على إيران أو غيرها.
ثانيًا: الحياد السياسي الإيجابي وليس السلبي
سياسيًا، اعتمدت عمّان حيادًا إيجابيًا، لا يقوم على الانكفاء، بل على التفاعل الحذر. فمن جهة، رفضت أي انتهاك لأجوائها أو استغلال موقعها الجغرافي، ومن جهة أخرى، لم تصدر أي موقف يدين بشكل مباشر إسرائيل أو إيران، بل طالبت الأطراف جميعها بوقف التصعيد وتغليب لغة الحوار.
هذا الموقف يُعبّر عن نهج متجذر في السياسة الخارجية الأردنية، التي لطالما سعت إلى لعب دور الوسيط، دون الانزلاق إلى الاستقطاب المحوري الذي يهيمن على الإقليم. وهو حياد ليس سلبياً، بل فاعلاً ومضبوطًا بمحددات وطنية وإقليمية.
ثالثًا: معضلة الجغرافيا والاستراتيجية
يقع الأردن بين محورين ملتهبين: من الغرب، إسرائيل التي تربطه بها اتفاقية سلام وتنسيق أمني حساس، ومن الشرق إيران التي تنشط من خلال حلفائها في العراق وسوريا. هذا الواقع يفرض على المملكة أن تتخذ قراراتها بدقة الجراح لا بعنف السيف.
فالضربات الإيرانية بطائرات مسيرة اعترض عدد منها فوق الأراضي الأردنية، يضع المملكة في موضع اختبار: هل يُفهم اعتراضها كحماية سيادية أم كدعم لإسرائيل؟ الجواب القانوني واضح: الدفاع عن النفس مشروع. لكن الجواب السياسي أكثر تعقيدًا، ويتطلب حنكة عالية في إدارة العلاقات مع طهران دون استفزاز، ومع تل أبيب دون تفريط.
رابعًا: مخاطر وتحديات
أمنية:
خطر الانجرار إلى ساحة الصراع أو تحوّل أراضيه إلى ممرات غير مباشرة لهجمات متبادلة.
دبلوماسية:
صعوبة الحفاظ على علاقات متوازنة في ظل استقطاب حاد بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، ومحور المقاومة من جهة أخرى.
اقتصادية:
تأثر قطاعي الطيران والسياحة سلبًا، وهما ركيزتان أساسيتان للاقتصاد الأردني، فضلًا عن مخاوف من موجات نزوح جديدة.
خامسًا: ما بعد التصعيد
يُنتظر من الأردن أن يلعب دورًا دبلوماسيًا فاعلًا بالتنسيق مع مصر، السعودية، وعُمان، في محاولة لإعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، خاصة مع تجميد المحادثات النووية بعد الضربة.
وقد يكون الأردن، بحكم قربه الجغرافي، واستقراره النسبي، طرفًا مناسبًا لاستضافة أي مسار حواري بديل، إذا ما خرجت المفاوضات عن مسارها في عُمان.
وموقف الأردن في زمن تتناقص فيه مساحات العقلانية على خارطة السياسة الإقليمية، يثبت الأردن مرة أخرى أنه قادر على التحرك بديناميكية قانونية وسياسية متزنة، تحمي مصالحه دون أن تفرط بموقعه الإقليمي.
الحياد الأردني في هذه الأزمة ليس ضعفًا، بل قوة ناعمة مدروسة، وموقع متوازن بين أطراف تتقن الصراع، لكن لا تُجيد التهدئة.







